مصر هذه الأيام أشبه بسجين ظل محروما من النور طويلا وحين خرج للشمس سار يتخبط في خطواته ولايعرف إلي أين تقوده أقدامه.. يفتح عينيه ويغلقهما وهو لايصدق أنه أبصر نورالحرية أخيرا ، الجميع متخبطون من القمة إلي مادونها ولكنها ضريبة التحول والانتقال إلي فضاء جديد أكثر رحابة لنبني مصر مختلفة عن التي عشنا فيها دون أن نشعر أنها ملك لنا ولأبنائنا ! فما إن سقط رأس النظام حتي بدأ مسلسل الارتباك في الخطوة أوالخطوات التالية، وانطلق سباق متفاوت السرعات بين شباب ثائر متعجل الخطي يريد أن يجني ثمار الثورة وبين جيل قديم من الحكماء يرون تحقيق ذلك لكن علي نار هادئة وبسرعة أقل تتيح تحكما أكثر ، ومن هنا بدأ صراع جديد اختلط فيه الحابل بالنابل والثوري بالانتهازي وبقايا النظام مع مكونات الشعب الباحث عن حريته وكرامته التي أهدرت لعقود طويلة من الزمن. وما شهدناه في الأسابيع والشهور الماضية يدل علي أننا جميعا نعيش مثل هذه الحالة من التخبط إلا مارحم ربي، لأننا كنا نعيش في فلك نظام قبله الكثير منا مرغما ورفضه البعض ودفع ثمن رفضه ، وفجأة صار القرار في يدنا، أن نضع خطوط حاضر ومستقبل هذا البلد ، الشباب الثائر يريد التخلص من رؤوس النظام وتطهير الشرطة والإعلام والقضاء والحياة السياسية من كل رموز الفساد في وقت قصير والقصاص لشهداء الثورة ، وبدت لهم سرعات من يمسكون بزمام الأمور من حكومة ومجلس عسكري بطيئة لاترضي طموحاتهم الثورية فتصاعدت غضبتهم، لكن عناصر مشبوهة من بقايا النظام ومن المدافعين عن مصالحهم استغلت حماستهم لإشعال نار في الشارع المصري عبر ساحات التظاهر والاعتصام ومحاولة الدفع في اتجاه الصدام بين الجيش والشعب دون أن يروا جيدا ماجري في العراق ومايحدث في دول الجوار الآن !! الجميع أخطأ في حساباته وتقديراته للظرف الصعب الذي تمر به البلاد، الأحزاب الكارتونية ركبت الموجة، والجميع يعلم أين كانت وماذا فعلت طوال العقود الماضية ، السلفيون والجماعة الإسلامية خرجوا إلي النور فكانت لغة خطابهم صادمة وأخطأ شيوخهم عدة مرات ربما لطول صمتهم أو لكثرة ماتعرضوا له علي يد النظام السابق من اضطهاد وتعذيب وربما لدخولهم ميدان السياسة لأول مرة ، جماعة الإخوان وضعوا أنفسهم ولمرات عديدة في خانة الدفاع عن مواقفهم وأفكارهم التي طرحها بعض قيادات الجماعة والخلافات التي طفت علي السطح بينها حول الأحزاب والشخصيات التي تنتمي للجماعة وتحمل أفكارها ، جمعيات ومنظمات المجتمع المدني تخبطت فيما يتعلق بالقضايا السياسية وقانونية ومشروعية المحاكمات لرموز النظام وماتعلق بقضية التمويل الخارجي التي أضرت بسمعة الكثير منها ، التيارات الليبرالية واليسارية أوالنخب كانت الأكثر تخبطا بين القوي السياسية خاصة مايتعلق بمصالحها ومصالح الشعب وكونت مايشبه الحزام الناري حول أفكارها وأيدلوجياتها، ومن هنا جاء صدامها عنيفا مع باقي مكونات المجتمع من خلال موقعة الاستفتاء وتداعياتها والدستور أولا ثم المباديء الحاكمة واستخدم بعض أقطابها لغة متدنية في الخطاب السياسي والإعلامي، وحتي مرشحو الرئاسة المحتملون ارتبكوا في تصريحاتهم وأفكارهم وسعيهم الحثيث لكسب رضا الجميع لكنهم يخسرون مصداقيتهم ومدي صلاحيتهم لإدارة بلد بحجم مصر في نظر الكثيرين!! لم ينج أحد من الوقوع في دوامة التخبط والارتباك وارتكاب الأخطاء لكن الحمد لله مصر حتي الآن لم ولن تغرق ويمكن للجميع أن يخرجوها من هذه الدوامة إن صلحت النوايا وصفت النفوس وتقاربت الرؤي وابتعدنا عن لغة التخوين والإقصاء وتصور كل طرف أنه وحده يملك ناصية الحكمة في تقرير مصيرهذا البلد ، وأقول لقيادات المجلس العسكري ندرك أنكم تتعرضون وبصبر لأصعب اختبار في تاريخ هذه المؤسسة الوطنية التي حمت الثورة وأنكم قادرون علي القيام بهذه المهام الجسام، لكن لتكن خطواتكم استباقية ومدروسة أيضا وليس من منطقة رد الفعل ولأصوات لاتعبر وحدها عن الشعب ، ولحكومة شرف أقول لتكن مهامكم محددة بخروج آمن لمصرمن هذه المرحلة الانتقالية بالغة الصعوبة مثل إقالة الاقتصاد من عثرته وإعادة بناء منظومة الأمن وتشغيلها علي موجة خدمة الشعب وليس النظام ، وعليها أن تبقي مصر واقفة علي أقدامها حتي تتسلم المهمة حكومة منتخبة قادرة علي العمل بحرية ويكون الشعب قادرا علي محاسبتها من خلال برلمان منتخب وفي ظل رئاسة بصلاحيات لاتصنع فرعونا جديدا أما ثوار الميادين فعليهم أن يبقوا علي جذوة ثورتهم مشتعلة لكن بأساليب لاتضعهم في مواجهة غضب الشعب الذي يريد أن يعمل ويعيش غير قلق علي حاضره ومستقبله، وأن تمضي عملية التحول الديمقراطي وبعدم فتحهم الأبواب لأعداء الثورة في الداخل والخارج كي يحرفوا مسارها ويقودوا البلاد للفوضي وما أكثرهم ، فلمصلحة من تشويه أو تخوين من يديرون أمر البلد من خلال انفلات غير مسبوق في صحف وفضائيات سممت الأجواء ولايعلم أحد علي وجه الدقة مصادر تمويلها وأغراض من يقفون وراءها !! القضية التي يجب أن نلتف حولها ليست الدولة المدنية أو الدينية أو الدستور أولا وأن تستغرقنا عملية التخلص من آثار الماضي دون أن نضيف لبنة جديدة للبناء ، لكنها قضية العبور بمصر من هذه المرحلة الأكثر صعوبة ووعورة وتعقيدا في تاريخها الحديث ، نحن في حاجة للإبقاء علي روح الثورة عندما تلاحم الشعب وتوحد لتحقيق أهدافها المنشودة »حرية وكرامة وعدالة اجتماعية «. كلمة أخيرة: متي بلغت أمة رشدها وعرفت للحرية قدرها استرجعت عزها (طبائع الاستبداد عبدالرحمن الكواكبي) [email protected]