مازالت حياة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك مليئة بالأسرار والحكايات المثيرة التي لم تعكسها عشرات الآلاف من العدسات التي تتبعته وعدت عليه أنفاسه أثناء وجوده في السلطة أو أزاح عنها الستار في الجزء الأول من مذكراته التي خرجت للنور عام 2009 بعنوان "كل خطوة يجب أن تكون هدفا" والذي سرد فيه قصة حياته حتي توليه الرئاسة في 1995 ليظل صامتاً عن أهم 12 عاماً قضاها بقصر الإليزيه وكأنه عاقد العزم علي تشويق القارئ طيلة هذه الفترة، نظراً لكونه سياسياً بارزاً ارتبط اسمه بدولة عظمي وشارك في قرارات هامة ومصيرية غيرت خريطة العالم. واليوم، كسر شيراك حاجز الصمت هذا بعد أربع سنوات علي اعتزاله السياسة عام 2007 و16 عاماً علي اختصامه مع الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي حيث كشف عن الأحداث السياسية التي وقعت علي المستويين الدولي والمحلي وعلاقته بالأخير من خلال الجزء الثاني من مذكراته التي عنوانها "زمن الرئاسة"، ويبدو الوقت صعباً بعض الشيء خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية العام المقبل، وقبل أقل من ثلاثة أشهر علي استئناف محاكمته في قضية الوظائف الوهمية الملاحق فيها والتي تعود وقائعها إلي المرحلة التي كان فيها عمدة باريس. ففي الجزء الأول من السيرة الذاتية لشيراك التي توقفت عند عام 1995 العام التي تسلم فيها مقاليد الحكم، كان إدوارد بلادوير رئيس حكومة فرانسوا ميتران من 1993 وحتي 1995 محط انتقادات شيراك، ليتحول ساركوزي موضوع الانتقاد الرئيسي في الجزء الثاني الذي يتألف من 624 صفحة، صدر مؤخراً عن دار نشر "نيل" لصاحبها روبير لافون، ويتضمن هذا الجزء فترة رئاسته لفرنسا والأحداث التي مرت عليه خلال هذه المدة بدءاً بقيامه بحل البرلمان عام 1997 والرفض الفرنسي لدستور الاتحاد الأوروبي والصراعات في يوغسلافيا السابقة، ومعارضته لغزو العراق وسياسات الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش وحتي عدم توليه الحكم للمرة الثالثة. ولخص شيراك رأيه بخلفه ساركوزي قائلاً إنه "عصبي المزاج، متهور، معارض ولا يمكن مصادقته، إلا أن النقد تضمن كذلك بعض المديح عندما قال شيراك عن ساركوزي بأنه طموح ومطلق الثقة وشخص يملك قوة في العمل، ومهارات مع وسائل الإعلام، يملك الحس التكتيكي الذي يجعله من السياسيين الأكثر حنكة بالإضافة إلي خبرته في المجال الحكومي وديناميكيته وشغفه بالعمل. وتتراوح الأوصاف التي أطلقها شيراك علي ساركوزي بين النعت الملتوي والنقد اللاذع الواضح. فقد أراد الرئيس الفرنسي السابق بذلك الكتاب أن يكون سلاحاً لتصفية حساباته مع بعض خصومه السياسيين بل وأداة لتوضيح الصورة الحقيقة لهم، لاسيما مع ساركوزي اليميني المتشدد والمتعصب أيضاً للولايات المتحدة علي حد قوله. فانتظر شيراك أكثر من 15 عاماً للانتقام مما يعده سلسلة خيانات ارتكبها ضده ساركوزي الذي احتضنه وأحاطه برعايته، وربطته علاقة غرامية بابنة شيراك الصغري كلود (49عاماً). وحين أعلن ساركوزي الشاب نيته في الترشح لرئاسة فرنسا تعجبت من ذلك التصرف زوجة شيراك برناديت وقالت إن هذا الرجل شاهدنا بملابس نومنا وكأنه قريب إلينا. وتعود العداوة بين الرجلين إلي الحملة الانتخابية الرئاسية عام 1995 عندما حجب ساركوزي الشاب الطموح تأييده عن شيراك لصالح منافسه إدور بالأدور. وفاز شيراك بالرئاسة ليحكم 12 عاماً لكنه أُرغم علي الاعتراف بشعبية ساركوزي وتعيينه في مناصب وزارية أساسية بينها تسليمه حقيبة الداخلية ومنذ ذلك الوقت زاد تطلع ساركوزي في الوصول إلي رئاسة فرنسا. وفي عام 2002عندما أعيد انتخاب شيراك في منصب الرئيس، فكر في تعيين ساركوزي في منصب رئيس الوزراء حيث بدا له وقتها كأفضل الموجودين للمنصب إلا أنه سرعان ما تراجع عن هذه الفكرة لوجود الكثير من الغموض والاختلاف بينهما. وبعد خسارة الأغلبية الرئاسية في الانتخابات المحلية عام 2004 رفض شيراك مجدداً تعيين ساركوزي رئيسا للحكومة لأنهما "مختلفان في المسائل الجوهرية" كما يقول شيراك في مذكراته، "فهو أطلسي، وأنا لا، هو أكثر ليبرالية مني من الناحية الاقتصادية، هو مع التمييز الإيجابي وأنا أرفض ذلك بشكل مطلق، وليس من الممكن أن تنجح العلاقة بيننا". كما كشف شيراك عن تصرفات جارحة كان ساركوزي تعود القيام بها وبالرغم من ذلك إلا أنه كان يتعامل معها وكأنه ليس غاضباً لأنهما مختلفان في الذوق والثقافة، ومن أبرز هذه التصرفات سخرية ساركوزي من رياضة السومو، الرياضة المفضلة لشيراك. وتطرق كذلك لتصريحات ساركوزي النارية عندما كان وزيراً للداخلية في 2005 بخصوص الضواحي الباريسية حيث وعد سكان مدينة "أرجنتاي" بتطهير الأحياء من "الحثالة" بفضل آلة "الكارشير" التي تستعمل عادة لتنظيف القاذورات، تصريحات وصفها شيراك ب"التصريحات الممنوعة". ويمضي شيراك في انتقاد قدرة ساركوزي علي تأجيج التناقضات وإلصاق الوصمات وتأليب فئة ضد أخري، ويرجع شيراك أغلب تهم الفساد التي يواجهها الآن جاءت نتيجة شائعات شنها ساركوزي من خلال حملات إعلامية منظمة منذ أول يوم تولي فيه شيراك الرئاسة. وعلي النقيض من ساركوزي يأتي زعيم الحزب الاشتراكي السابق فرانسوا هولاند الذي يتمتع بالقدرة علي التصرف "كرجل دولة حقيقي" ، بحسب وصف شيراك. ويعتقد كثيرون في أوساط اليسار بأنه أفضل من يستطيع أن يتحدي ساركوزي في الانتخابات الرئاسية العام المقبل بعد اعتقال "دومينيك ستروس كان" بتهمة الاعتداء الجنسي في نيويورك. واعترف شيراك بخطأ ارتكبه خلال فترتي رئاسته متعلق بسياسته بعد الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية 2002 والتي فاز بها أمام زعيم اليمين المتطرف جان ماري لوبان حيث كتب كان من المفترض علي اختيار 82٪ من فريق عمل من الفرنسيين الذين صوتوا له في الانتخابات، واعتبره خطأ بحق الوحدة الوطنية التي كنت راعيها. وبالرغم من ذلك الاعتراف إلا أن هناك صمتا من قبل شيراك تجاه الاتهامات التي يواجهها هذا باختلاس المال العام لتمويل حملته السياسية بإيجاد وظائف وهمية في التسعينات. ويكتب شيراك أنه من أشد المعجبين برئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير الذي انتخب بعد عامين علي توليه الرئاسة الفرنسية بوصفه شخصية جريئة. إلا أن التاريخ سيصدر علي بلير حكماً قاسياً بسبب موقفه من العراق. ويتوقف شيراك أيضاً في مذكراته عند علاقته المتوترة ببوش ، بسبب انضمام شيراك للمعسكر الرافض للغزو الأمريكي للعراق، في وقت قرر فيه بوش الإطاحة بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين مهما كانت الاعتراضات بتأييد كاسح من المحافظين الجدد، ومعظمهم من اليهود. وكان الرئيس الفرنسي السابق أول من حذر من سقوط العراق خوفاً من الإرهاب ومخاطر النزاع الطائفي بين السنة والشيعة، فضلاً عن تنامي النفوذ الإيراني من خلال الطائفة الشيعية الكبيرة.