كالمستجير من الرمضاء بالنار..هكذا هو حال ثوار ليبيا بعد مضي أكثر من ثلاثة أسابيع علي تدخل المجتمع الدولي عسكريا لحماية المدنيين من بطش كتائب العقيد معمر القذافي بموجب قرار مجلس الأمن رقم 3791، فبعد انتقال قيادة العمليات من فرنسا وبريطانيا لحلف شمال الأطلنطي"ناتو"، لم يتغير وضع الثوار والمدنيين كثيرا، بل إن الأمور تسير باتجاه الأسوأ، ولعل خير شاهد علي ذلك هو ما حدث يوم الخميس الماضي حينما قصفت طائرات الأطلنطي مواقع للثوار عن طريق الخطأ مما أدي لسقوط خمسة قتلي وخمسة عشر جريحا، وذلك علي بعد 02كم من بلدة البريقة النفطية (علي بعد042كم إلي الغرب من بني غازي) ، هذا فضلا عن أن مدينة أجدابيا (061كم إلي الجنوب من بني غازي) تحولت إلي مدينة أشباح بعدما هجرها السواد الأعظم من سكانها، خوفا من تقدم كتائب القذافي التي تزحف باتجاه الشرق وتحاصر مصراته في الغرب منذ ما يقارب الخمسين يوما دون أن تحرك طائرات الناتو ساكنا . غير أن تراجع الثوار وعدم إحرازهم أي تقدم علي الصعيد الميداني له أسباب أخري متعددة، أولها افتقادهم للخبرة العسكرية وهو ما يتجلي واضحا في عدم قدرتهم علي القيام بهجمات منظمة، وانعدام تكتيكاتهم الدفاعية، حيث انسحابهم يكون دوما تجسيدا لحالة من الفوضي العارمة، وتقدمهم لا يحدث إلا حينما تفسح كتائب القذافي لهم المجال ولا تفعل تلك الأخيرة ذلك إلا بهدف إيقاعهم في فخ ما، وهو ما حدث عدة مرات في المعارك الدائرة بالبريقة علي مدار الأيام السابقة، يضاف إلي ذلك أن الكتائب الموالية للقذافي تستخدم سيارات مدنية في عمليات نقل الإمداد والتموين القادم من الغرب، لذا فإن طائرات الناتو تصبح عاجزة عن التعامل معها في أوقات كثيرة، كما تقوم كتائب القذافي، في أوقات متأخرة من الليل، بعمليات التفاف علي مواقع الثوار عبر الصحراء يساعدهم في ذلك عربات رباعية الدفع ومناظير رؤية ليلية تعمل بالليزر، هذا فضلا عن امتلاكهم لزوارق بحرية تمكنهم من الهجوم وإطلاق الصواريخ من البحر ، أما الثوار فيعتمدون علي وسائل اتصال بدائية، الأمر الذي يؤدي لكوارث حقيقية بالفعل، فقد تقدمنا نحو البريقة يوم الأربعاء الماضي بعد تأكيدات عن سيطرة الثوار عليها لنفاجأ أنها تحت سيطرة رجال القذافي وهو ما أدي إلي مقتل عدد غير معروف من الثوار إضافة لوقوع عدد آخر في الأسر ومعهم أربعة مراسلين أجانب من الولاياتالمتحدة وبريطانيا وجنوب إفريقيا.. ويبقي الخطر الأكبر متمثلا فيما يعرف بالخلايا النائمة للجان الثورية التابعة لنظام القذافي، ويتمثل دورهم في إشاعة أنباء تثير الذعر والفوضي في صفوف الثوار والمدنيين علي حد سواء، كما أنهم يجوبون الشوارع بسيارات مدنية وأحيانا بسيارات إسعاف ويطلقون النار عشوائيا علي المارة وهو ما شهدته مدينتا بني غازي وأجدابيا أكثر من مرة علي مدي الأيام الماضية. استياء من تركيا ردود الفعل البطيئة جدا من الناتو وقصفه الخاطئ لمواقع الثوار وموقف تركيا الرافض لتسليح الباحثين عن الخلاص من نظام حكم العقيد، كل ذلك يثير حالة من الاستياء الشديد في كل مدن شرق ليبيا، وهو ما عبر عنه أحمد خليفه الناطق الإعلامي باسم المجلس الوطني الانتقالي بقوله، في تصريحات خاصة لآخر ساعة:"تركيا تعيق الناتو والناتو يعيق تقدم قواتنا بضرباته الخاطئة علي مواقعنا، والنتيجة أنه لا يوجد الآن أي ضغط علي القذافي وكتائبه، بل هو يكسب الوقت بمعرفة رئيس الوزراء التركي السيد رجب طيب أردوغان الذي يخشي علي استثمارات تركية بخمسة عشر مليار دولار هي الأعلي في استثمارات أنقرة في كل دول العالم"، ويضيف خليفة:"أردوغان يسعي لمسك العصا من المنتصف علنا حيث يسعي لحل سياسي للأزمة علي أمل استكمال مشاريع بلاده الاستثمارية مع نظام القذافي، بينما في الخفاء هو شريك رسمي في سفك دماء الشعب الليبي"، وعن شبح التقسيم المخيم علي ليبيا في حال إطالة أمد الحرب كما يتوقع كثير من المراقبين، قال خليفة:"تقسيم ليبيا شيء مستبعد تماما، علي الأقل من حسابات كل الليبيين فنحن جميعا مسلمون سنة ولا يوجد عندنا طوائف أو ديانات أخري وإذا نظرت إلي بني غازي علي سبيل المثال ستجد أن معظم عائلاتها منحدرة من مدن الغرب وأنا علي سبيل المثال اسمي بالكامل أحمد خليفة المصراتي، أي أنني من مدينة مصراتة في الأساس وبالرغم من نزوح العائلات من الغرب نحو الشرق إلا أنك لا تجد مخيمات أو أزمة في السكن لأننا جميعا أسرة واحدة وكل من جاء من الغرب لم يجد أي صعوبة في النزول عند إحدي عائلات الشرق"..وينهي خليفة كلامه بالدعاء ساخرا:"اللهم عليك بالناتو أما القذافي فنحن كفيلون به" مدينة أشباح آخر ساعة أمضت أيام الخميس والجمعة والسبت الماضية ما بين مدينة أجدابيا وبلدة البريقة الجبهتين المشتعلتين في الشرق، حيث كان القتال، في الثانية، ما بين الثوار وكتائب القذافي عبارة عن تراشق بصواريخ جراد روسية الصنع والتي يصل مداها لعشرين كم عند الثوار بينما يصل هذا المدي لأربعين كم عند كتائب العقيد، ويعلق "سراج العبيدي" (64عاما)، وهو أحد القادة المسئولين عن البطاريات المضادة للطيران والمدفعية بنبرة مستاءة قائلا:"لست أدري ما الذي ينتظره المجتمع الدولي والدول العربية لإمدادنا بالسلاح ؟! نحن نقاتل بأسلحة خفيفة وغير مهيأة لخوض حرب بالمعني المفهوم وكثيرا ما تتعطل معداتنا علي الجبهة فنضطر للعودة مرة أخري لعمل الصيانة وهو ما يتطلب جهدا مضاعفا ووقتا إضافيا"..كان التراشق بالمدفعية علي أشده بين الجانبين وكان الموالون للقذافي يتحصنون بمبني جامعة البريقة بينما الثوار يحاصرون البلدة الخالية تماما من أهلها من كل اتجاه، وعلي وقع دوي المدافع يواصل العبيدي حديثه قائلا:"نحن نستطيع أن نتدبر أمورنا ، ولكن ماذا عن أهلنا في مصراته المحاصرين بلا ماء ولا دواء والبحرية التركية المرابطة في مياه المتوسط تمنع وصول السلاح إليهم وتجعلهم لقمة سائغة لمرتزقة القذافي" أما أجدابيا فقد تحولت بالفعل إلي مدينة أشباح كنت قد زرت ، المدينة مع بداية أحداث الثورة الليبية، ولكني وجدت صعوبة كبيرة حقا في التعرف عليها هذه المرة، لقد هجرها أهلها وأغلقت المحلات التجارية أبوابها وتحول كثير من مبانيها إلي أطلال بفعل قصف بمدفعية الهاون وصواريخ جراد من قبل كتائب القذافي وهناك ما يقرب من 051 مفقودا من سكان المدينة يعتقد أنهم أسري في سجون العقيد بطرابلس، وبالرغم من كل ذلك رفض كل أئمة جوامع المدينة مغادرتها، بل أصروا علي البقاء لتعمير مساجد أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه..يدوي صوت الأذان مع موعد كل صلاة وبالكاد يكتمل صف أو اثنين من المصلين في أكبر مساجد المدينة وهو مسجد الإسراء، بينما مسجد آخر تحولت واجهته إلي ما يشبه المصفاة من كثرة ما اخترقها من رصاصات من عيار14.5 مل المضادة للطيران والمدفعية، فكتائب القذافي مرت من هناك ورجاله لا يميزون..قمنا بأداء صلاة الجمعة في مسجد خالد بن الوليد، واصطحبنا أحد سكان المدينة للراحه بمنزله شاب يدعي "يعقوب"(73عاما)، قام بنقل والدته وزوجته وطفليه محمد(6سنوات) ويوسف(3سنوات) إلي بني غازي بينما بقي هو في أجدابيا يحمل مدفعه الرشاش ليدافع عن المدينة ، يعقوب يؤكد أن له حسابا ينبغي تصفيته مع القذافي فذلك الأخير قتل أخاه الأكبر عبد الحفيظ في مذبحة سجن أبو سليم (في العاصمة طرابلس) الشهيرة التي راح ضحيتها 0021 معتقل سياسي عام 6991، هذا فضلا عن أن يعقوب نفسه أمضي، عام 5002، أربعة أشهر في المعتقل ذاته بتهمة أداء صلاة الفجر في المسجد !علي نهج المختار علي مدي 84 ساعة (يومي الجمعة والسبت) لم ينقطع دوي الطلقات النارية كان القتال من منزل لآخر ومن شارع لشارع وربما "زنجة زنجة" علي حد وصف القذافي نفسه، كان يعقوب يخرج من وقت لآخر ليشارك في القتال وكان من المستحيل مغادرة المدينة في ظل هذا الوضع، إلي أن خفتت حدة الاشتباكات فتمكنا أخيرا من الخروج والعودة إلي بني غازي مرة أخري. أجدابيا هي أهم مدن شرق ليبيا علي الإطلاق إذ أنها محور يقود إلي الغرب والشرق والجنوب معا والسيطرة عليها تعني السيطرة علي حقول بترول جالو والكفرة والسرير، ومنها يمكن الوصول لمدينة طبرق (تقع علي بعد 031 من الحدود المصرية) في خلال ثلاث ساعات ونصف من خلال طريق يشق الصحراء، علما بأن الذهاب من الطريق الاعتيادي الذي يمر ببني غازي يستغرق سبع ساعات كاملة للوصول إلي طبرق، وبمعني آخر فإن السيطرة علي أجدابيا تعني السيطرة علي كل شرق ليبيا، لذا يستميت الثوار في الدفاع عنها وكان أكثرهم حماسة رجل مسن قرر أن ينضم إليهم ويدافع عن المدينة بنفس الطريقة التي كان يقاوم بها عمر المختار ورجاله الاحتلال الإيطالي، ذهب الرجل نحو المدخل الغربي لأجدابيا غير عابئ بكل التحذيرات التي تطالبه بالعودة، وهناك ربط قدمه اليسري بحبل ووضع علي يمينه علم ليبيا عقب الاستقلال عن ايطاليا (غيره القذافي للعلم الأخضر) وأقسم ألا يدخل مرتزقة القذافي أجدابيا إلا بعد أن يدهسوا جسده بدباباتهم..لم يبال العجوز الذي تجاوز الستين من العمر بصواريخ جراد التي تتقاذف من البر والبحر وجلس يرتل"الرحمن ..علم القرآن ..خلق الانسان ..علمه البيان.."