الدين الإسلامى يرفض الكهنوت عفواً ليس كل من يؤيد تهمة ازدراء الأديان جاهلاً، وأيضا ليس كل من يوافق علي حبس "مزدري الدين" متشدداً.. فإذا كان بعض المثقفين أو رجال الدين يروِّجون لضرورة إلغاء عقوبة الحبس بسبب ازدراء الأديان لتعارضها مع حرية الرأي والتعبير، فهناك فريق آخر منهم يطالب بتغليظ عقوبة الحبس لتهمة ازدراء الأديان، ولأن لكل فريق حجته وأدلته العلمية واستدلالاته القرآنية وحجته القانونية، ومن باب مناقشة الفكر بالفكر تقدم "آخرساعة" مواجهة ساخنة بين مؤيدي ومعارضي قانون ازدراء الأديان. في هذا الإطار نطرح علي رجال الدين والقانون جميع التساؤلات المتعلقة بهذه القضية.. هل ناقشت الشريعة الإسلامية العلاقة بين حرية الرأي والتعبير وبين حبس المتهم بازدراء الأديان؟ وهل هناك تعارض بين مطالبات تجديد الخطاب الديني ووجود قانون لازدراء الأديان؟ وهل عقوبة الحبس لمزدري الدين عادلة؟ وإذا كانت عقوبة ظالمة هل يجوز تقنينها؟ وإذا كانت غير كافية فهل يجوز تغليظها؟ كلها تساؤلات مهمة طرحناها علي رجال الدين والقانون. الدكتور محمد رأفت عثمان أستاذ الفقة المقارن بكلية الشريعة والقانون، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر يقول: حرية الرأي والتعبير مكفولة في التشريع الإسلامي والتشريعات الإلهية من قبل أن ينص عليها القانون أو الدستور أو حقوق الإنسان، ويكفي هنا الدليل القرآني "ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، وهذا معناه أن تكون المجادلة بضوابط وقواعد وأسس الأخلاق الحسنة، فمن يؤمن بمبدأ حرية الرأي عليه أن يحترم آراء الآخرين ولا يتعرّض لهم بالسب أو البذاءة أو التسفيه. يتابع: الأزهر يربي طلابه منذ الصغر علي حرية واحترام الرأي الآخر، فنجد أن الكتب الدراسية للمراحل الأولي للفقة الاسلامي تشمل آراء متعددة وكثيرة حتي في المذهب الواحد وذلك دون التقليل من شأن الآخرين، وذلك معهود في جميع كتب الفقه الإسلامي، فنجد علي سبيل المثال الشافعية عندما يتحدثون يقولون قال أبو حنيفة رضي الله عنه والفقه الحنفي عندما يقدم رأياً عن الشافعي أو ابن حنبل أو مالك يقولون: يقول الشافعي رضي الله عنه... وهكذا، ثم يشرح بعد ذلك دليله وعلته في الرأي، وهذا يعد أكبر رد علي من يتهمون الأزهر بأن كتبه تدعو إلي التطرف. يتابع: إذا كان القانون المصري يعاقب بتهمة السب والقذف من يسب إنساناً عادياً مهما قلت مكانته الاجتماعية، فبأي منطق نجد مطالبات بعدم معاقبة من يشتم الأئمة ويهين مكانتهم العلمية العالية التي تجمع الأمة الإسلامية علي شموخها بحجة حرية الرأي والتعبير، مؤكداً أن حرية الرأي والتعبير ليس معناها حرية الشتائم والسباب، فلا يجوز لقائل يحترم العلماء عن الأئمة الأربعة "السفهاء الأربعة"، فهذا جاهل لأنه إذا كان متعلماً أو دارساً في الأزهر الشريف لتعلّم مادة أدب البحث والمناظرة التي تعلِّمه كيف يناقش ويدلِّل ويعارض الآخر باحترام. فيما يقول عبدالحميد الأطرش، رئيس لجنة الفتوي الأسبق: كلمة ازدراء معناها احتقار ولا يجوز بأي حال أن يحتقر أي شخص ديناً منزلاً من عند الله، الله تبارك وتعالي أنزل التوراة والإنجيل والقرآن والزبور وصحف إبراهيم وموسي، كلها كتب مقدسة ولا يجوز ازدراء الأديان، والله تعالي قال: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرِّق بين أحد من رسله"، وهذا يؤكد أننا مأمورون بالإيمان بجميع الأنبياء والرسل لا فرق بين موسي وعيسي ومحمد. ويضيف: من يحتقر الأديان إنسان لا ديني، وينبغي أن يُضرب عليه بيد من حديد لأن الله أمرنا باتباع دينه الحنيف أيا كان هذا الدين، رافضاً أن يُسمّي هذا الازدراء بتجديد للخطاب الديني، فالخطاب الديني لا يقوم بتجديده إلا أهل الخبرة، والإنسان الذي لا يفهم شيئاً لن يقدم شيئاً، ومعيار أهل الخبرة هنا هو أن يكون هذا الشخص هو من يحفظ القرآن الكريم كاملاً ثم يجيد اللغة العربية، لأن الكلمة والحرف الواحد له معني باعتبار وقوعه في الجملة، والقرآن الكريم يقول: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" أي أهل الاختصاص. فليس كل من قرأ كلمة أو كتاباً أو لبس ثوباً قصيراً يستطيع أن ينصِّب نفسه عالماً أو يجادل أو يقترح، والأزهر منذ ألف عام قدم علماء ملأوا الدنيا عدلاً ونوراً، ولا يجوز بعد أكثر من ألف عام أن يأتي شخص أيًا كانت مكانته ليعيب في الأزهر وثوابت الدين بحجة أنه يجدد ويبتكر، أيضا أطالب ملّاك الإعلام أن يسدوا الباب في وجه أصحاب هذه الدعوات حتي تموت الفتنة، فهم لو كانوا يفهمون معني كلمة الرأي لكانوا اهتدوا للحقيقة، ولكنهم للأسف هم محبو الظهور ومفتونون بالشهرة فقط.. لذلك يلجأون لقاعدة "خالف تعرف" حتي تزداد شهرتهم. ولأن اتفاقية الأممالمتحدة لحقوق الإنسان أقرت في أحد بنودها "الحقوق المتساوية وتقرير الشعوب لمصائرها والمساواة في السيادة واستقلال جميع الدول وعدم التدخل في شئونها الداخلية والاحترام العالمي لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع"، وهذا البند أعطي الحق لأي دولة في التحفظ علي أي بند من بنود الاتفاقية سواء إذا كان متعارضاً مع الدستور أو مع الشريعة أو حتي إذا كان هذا البند يخالف عادات البلاد وتقاليدها.. يتحدث مصدر قضائي بمجلس الدولة عن قانونية عقوبة ازدراء الأديان ويقول: هناك نصان في الدستور يؤيدان هذا القانون، النص الأول هو الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، والنص الآخر هو تجريم التعدي علي دور العبادة، وهذه الجريمة لا تسقط بالتقادم كما أعطي الدستور استقلالية للأزهر وسلطات كبيرة لشيخ الأزهر باعتباره أعلي جهة تشريع. ولأن كل القوانين واللوائح تتفرع من الدستور فقانون العقوبات المصري يحتوي علي مادتين لعقوبة ازدراء الأديان، وساوي الدستور هنا بين الأديان الثلاثة واحترام الدين بكل صورة، والعقوبة نصت علي "التهكم والسخرية والتصوير"، ولا يجوز مطلقاً إلغاؤها لأنها تتوافق مع طبيعة الشعب وعاداته وقيمه وتقاليده، مضيفاً أن الشعب المصري تحديداً برغم أنه قد يتسامح مع من يشتمه أو يسبه فهو لن يقبل أبداً أو يتسامح مع من "يسب الدين"، فكيف يمكن أن نفرض عليه قبول الشخص الذي يزدري أو يتهكم من الدين. مضيفاً: إذا كانت هذه المادة أثارت غضب البعض فيجوز قانونياً المطالبة بتقنين العقوبة، علي سبيل المثال أن يوضع شرط أن من يحرِّك الدعوي الجنائية ضد مزدري الدين لابد أن يكون من رجال الأزهر أو الكنيسة أو دار الإفتاء، وبالتالي لن يتاح لأي شخص عام أو كما يطلق عليه "دعوي الحسبة التي تتيح لأي شخص في الشارع" أن يحرِّك دعوي جنائية ضد شخص أو ضد باحث أو ضد عالم، لأن هناك معياراً علمياً يحدِّد الفرق بين ازدراء الأديان والنقض والبحث. مؤكداً أن أصول الفقه تحدثت عن تفاصيل دقيقة لطريقة البحث أو النقض حتي لا يقع العالم أو الشخص في ازدراء الأديان، فالقرآن والسنة علي سبيل المثال اشترط علي الباحث أن يستخدم أربعة عشر مصدراً للبحث، وبعد ذلك اشترط أن يجمع أكثر من عالم وفقيه علي أدوات هذا البحث وذلك لمصلحة المجتمع ودرء الشبهات، وإذا تركت المسألة دون هذه القيود العلمية فحتماً ستقع الشبهات. أما عن رأي المعارضين لقانون ازدراء الأديان فيقول الدكتور عبدالفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر: مفهوم ازدراء الأديان غير واضح في أذهان من يطبقون نصوص المواد التي تجرِّم هذا العمل، وذلك لأن الذي يقع من البعض قد لا يمثِّل ازدراءً ولا استخفافاً بها وإنما قد يكون نتيجة جهل البعض بما يعد متعلِّقا بدين أو شريعة معينة، فيعدها بعض المغرضين إساءة للأديان وأصدق مثال ما وقع من إسلام البحيري في برنامجه فإنه لم يكن ازدراء للدين وإنما هو مجرد خوض في سير بعض علماء السلف وتشكيكاً في بعض الأمور التي يراها البعض ثوابت وهي ليست من الثوابت. ولذلك ينبغي أن يكون في صدر هذه المادة تعريف دقيق لما يعد ازدراءً للأديان أو الاستخفاف بها ولا ينبغي أن يُترك الأمر علي عواهنه حتي لا يستغل البعض ذلك وسيلة إلي إنزال العقوبات بمن لا يستحقون الإنزال بها لأن أسلوب الجلد لمن يخطئ قد يؤدي إلي نتائج عكسية فيعزف الناس عن الدين والعلماء ويتعاطفون مع المخطئ، فإذا أخطأ إسلام البحيري وسب الأئمة فيجب ألا يعاقب بتهمة ازدراء الأديان، ويجب أن يُعاقب بغير هذه المادة، فالأئمة الأربعة هم بكل احترام يمثلون أشخاصاً ولا يمثلون ديناً، فالدين هو عبارة عن نصوص الشرع وما جاء به من وحي الله تعالي ثم المبادئ والقيم التي جاء بها الوحي الإلهي. الدكتور مصطفي معوض أستاذ الفكر الإسلامي بكلية البنات جامعة الأزهر يؤيد هذا المعارضة ويقول: نحن مع إلغاء تهمة ازدراء الأديان، لأنها تهمة غير محددة والمجتمع غير قادر علي تقنينها أو ضبطها مؤكداً أن القانون المصري لا يحتاج لعقوبات جديدة فمن يقوم بسب أو قذف الذات الإلهية يستطيع القانون أن يعاقبة بقانون العقوبات الذي يجرِّم الألفاظ البذيئة وخدش الحياء العام، أما أخطاء التفسير والنقد فلا يجب أن توكل لأشخاص بعينهم، لأن الدين الإسلامي يرفض "الكهنوت"- علي حد تعبيره- مضيفاً: للأسف كل ما نشاهده في إجراءات تطبيق هذا القانون هو محاولات استغلال للدين لصالح الاستبداد الاجتماعي وأحياناً السياسي.