تستطيع أن تغيِّر واقعك بقدر ماتملكه من طموح، فالواقع ليس قدراً محتوماً لافرار منه، ولكنه فقط، ماتمنحك إياه الحياة، بشكل مبدئي، وانت وشطارتك بقي، ياإما تبقي علي حالك، وتبرر عجزك بالرضا بالمقسوم، ياإما ترتفع بطموحك لتلمس بيديك السحاب! نعم تستطيع لو كانت لديك الموهبة والإرادة، مثلما كانت لدي الشاب الفرنسي "فيليب بيتيت"الذي كان مجرد شاب نحيل لديه بعض المهارات الحركية، تؤهله للسير علي الحبال، التي يمدها في بعض شوارع باريس وأزقتها، ليكسب قوت يومه، من تقديم فقرات أكروباتية للمارة مصحوبة ببعض حركات السحر، وخفة اليد، ولكن طموحه الشخصي أفاق فجأة ورفض أن يقضي عمره، يقدم تلك الحركات البسيطة، لينال بعض الفرنكات التي يلقي بها المارة في قبعته، استيقظ طموحه الذي وصل إلي مداه عندما شاهد صورة في إحدي الجرائد عن نموذج بناء أطول برجين في العالم، بمدينة نيويورك في التسعينيات من القرن العشرين، وهما ماعرفا بعد ذلك ببرجي التجارة العالميين، وتلخص حلمه في مد حبل من الصلب أعلي البرجين يمكنه من السير بينهما، علي ارتفاع مايزيد عن مائة طابق، ليقطع مسافة تصل إلي خمسمائة قدم! إنها مغامرة مدهشة، جريئة مخيفة مجنونة، الغريب في الأمر أن فيليب بيتيت وجد من يؤمن بجنونه ويسانده، مجموعة من الأصدقاء كان لكل منهم دور في تنفيذ الحكاية، بداية من عمل الدراسات حول مداخل ومخارج المبني، الضخم العملاق، وكيفية اقتحامه، وإدخال المعدات اللازمة لمد الحبل الصلب بين البنايتين بشكل سليم ومناسب يضمن سلامة من يسير عليه، تحديد يوم للقيام بتلك المغامرة، ودراسة الظروف المناخية واتجاه الريح في هذا اليوم، يعني المغامرة رغم عدم منطقيتها، إلا أنها خضعت لكل تفاصيل الخطط العسكرية، لأن فشلها هو كارثة بجميع المقاييس، وطبعا بين مجموعة الأصدقاء الداعمين للمغامرة، كان لابد من وجود مصور فوتوغرافي يتولي تصوير وتسجيل كل مراحل العملية، التي بدأ التخطيط لها نظرياً في باريس، ثم انتقلت المجموعة برمتها إلي مدينه نيويورك، لبداية التنفيذ! كل هذه التفاصيل التي تعتمد علي المنطق والإعداد السليم، لم تمنع فيليب بيتيت من التدريب الشاق اليومي، علي السير علي الحبال حتي يكون مستعداً لليوم الموعود! تلك التفاصيل كتبها صاحب التجربة بنفسه في كتاب أطلق عليه "السير بين السحب"، وتلقف الكتاب المخرج الإنجليزي جيمس مارش" صاحب فيلم نظرية كل شيء" ليقدمه في فيلم تسجيلي باسم رجل علي الحبل MAN ON WIRE يحقق الفيلم درجه عالية من النجاح في عام 2007ثم يتحول الكتاب مرة أخري إلي فيلم روائي من إخراج روبرت زيميكس وبطولة النجم الشاب جوزيف جوردن ليفيت، في فيلم تم تنفيذه بإمكانيات ال3D وأعقد وأحدث تقنيات الصورة السينمائية، في فيلمTHE WALK الذي يعرض حالياً بالقاهرة، وكافة العواصم العالمية! ورغم أن الفيلم التسجيلي ، والروائي يعتمدان علي نفس مادة الكتاب، الذي وضعه فيليب بيتيت صاحب التجربة الفريدة بنفسه، إلا أن متعة مشاهدة الفيلم الأول، لاتقلل بحال من متعة مشاهدة الثاني، وهنا لابد أن نتحدث عن الفرق بين التسجيلي والروائي حيث يعتمد الثاني علي عناصر الدراما من التشويق والمفاجأة والمفارقة، والتركيز علي بعض النقاط والمشاهد التي تؤدي للتوتر، وتصوير البطل وهو يسير علي الحبل الممدود بين البنايتين، من جميع الزوايا، ووجهات النظر، حيث يقف قلة من المارة لمتابعة شخص مجنون يسير علي حبل علي ارتفاع مايزيد عن مائة طابق فوق سطح الأرض، ثم لقطات علوية لنتابع درجة الارتفاع ، ويدخل الحدث عناصر مفاجئة، مثل هجوم طائر ضخم علي فيليب وهو يسير علي الحبل، وتشتيت ذهنه بوجود قوات شرطة تقف علي سطح إحدي البنايتين انتظاراً لانتهائه من استعراضه المجنون للقبض عليه، ويتصاعد الموقف بتحليق طائرة هليوكوبتر فوق رأسه! كل هذا يحدث وهو يسير بثقة منفصلاً عما يحدث حوله، وكأن حياته ممدودة أمامه علي هذا الحبل الصلب الذي عليه أن يجتازه، ليصل إلي المبني المقابل، لعبت كاميرا مدير التصوير فلادشيو كانيك دورا مذهلاً في تقديم، تلك التجربة البصرية الممتعة، أما جوزيف جوردون ليفيت، فربما يكون دوره في هذا الفيلم بداية حقيقية ومميزة تنقله إلي مكانة متقدمة بين نجوم هوليوود، وقد أجاد في تلوين لكنته الإنجليزية ومزجها بالفرنسية، ورغم أن السيناريو وضعه في موقع الراوي، ليقف ثابتاً أعلي تمثال الحرية ويحدثنا عن تجربته مع البرجين اللذين يظهران في خلفية الكادر، إلا أن هذا التصرف لم يخل أو يقلل من متعة متابعة المغامرة، أنت تعرف أن فيليب بيتيت قد قام بمغامرته المجنونة وخرج منها سالماً، مكللاً بالنجاح وقدر هائل من الشهرة، ولكن هذا لايقلل من درجة التوتر والقلق وأنت تتابع خطوة قدمه وهو يمدها فوق السلك ، وتحته مجموعة من البشر يبدون مثل اللعب الصغيره، نظراً للارتفاع الشاهق الذي يفصله عنهم! المخرج روبرت زيميكس، يعشق الأفلام التي تقوم علي التحديات والمهارات الشخصية الفريدة، التي تحقق للإنسان قدرا من النجاح، في فيلمه فورست جامب، استطاع البطل"توم هانكس" المعوق أن ينتصر علي إعاقته الجسدية، ويصبح عداء شهيراً، وأن ينتصر علي إعاقته الذهنية ويحقق حلمه في امتلاك أسطول بحري لصيد الجمبري، وفي فيلمه "كاست أواي" CAST AWAY بطولة توم هانكس أيضاً، استطاع أن يجتاز محنة وجوده وحيدا في جزيرة منعزلة، ليصل أخيراً إلي بر الأمان بفضل قدرته علي التصرف وعدم استسلامه للعجز والخوف، قد يكون روبرت زيميكس من أفضل المخرجين الذين يستعينون بالتقنيات التكنولوجية لتقديم صورة مبهرة، ولكنه أيضا ينتصر دائما للشخصيات التي تمتلك الطموح والجرأة والقدرة علي المغامرة للوصول إلي آفاق أكثر رحابة!