ليلة وضحاها تحولت ريا وسكينة من مجرمتين إلي بطلتين قوميتين، بعدما انتشرت علي مواقع التواصل الاجتماعي رواية تحاول تنصيبهما كأبطال مقاومة ضد الاحتلال البريطاني، باعتبار أن عصابة ريا وسكينة تخصصت في قتل أفراد من الجيش المحتل، وأن الأخير لفق قضية قتل النساء لريا وسكينة، الواقعة رغم غرابتها تكشف عن موجة جديدة ضربت المجتمع تنعكس فيه القيم، وسط سعي محموم لتدمير القيم والرموز الوطنية والإعلاء من نماذج غير سوية علي سطح المجتمع. فمن الهجوم علي سعد زغلول واتهامه بالخيانة والعمالة للإنجليز، إلي محاولة تشويه قيم الغناء والفن والأدب، مرورًا بتشويه رؤساء مصر جمال عبدالناصر وأنور السادات، يبدو أن الخلل أصاب المجتمع في تحديد قيمه ووضع رموزه في حجمها الطبيعي في إطار النقد لا التهجم والسخرية،التي ظهرت واضحة في إعلان لإحدي شركات المحمول تعمدت إهانة مجموعة من المطربين بسبب تقدمهم في السن علي يد مجموعة من المطربين الأصغر سنًا. أشهر الأباطيل: صلاح الدين مجرم حرب وريا وسكينة من أبطال المقاومة وسعد زغلول وناصر عملاء رشاد عبداللطيف: ضعف الوازع الديني وغياب المنظومة التربوية سبب الخلل الأخلاقي انهيار القيم وتحطيم الرموز التاريخية والثقافية والفنية تزامن مع الاحتفاء بظواهر لا يمكن وصفها إلا بأنها تجافي الذوق العام فانتشار أغاني المهرجانات التي تحتفي بالعنف وتكرس لقيم الفردية والنفاق والمصلحة الشخصية والفهلوة والأنانية، تواكب مع موجة أفلام ومسلسلات تكرس لأخلاق البلطجة وتحتفي بالبطل الذي يعاقر الخمور ويتعاطي المخدرات ويتحرش بالنساء، ما انعكس علي الشارع مع تزايد معدلات التحرش والبلطجة فضلا عن شكاوي من اختفاء قيمة احترام الكبير عند الجيل الجديد، ما يكشف عن خلل في منظومة الأخلاق وتراجعها لصالح منظومة جديدة تقترب من قيم الغابة حيث البقاء للأقوي. تجليات الأزمة تتجلي بوضوح في الكثير من مناحي الحياة، فمن وسائل المواصلات التي تتراجع فيها ظاهرة تنازل صغار السن عن مقاعدهم للكبار، مرورا بظاهرة التحرش التي تجعل مصر واحدة من أعلي الدول التي تعاني من هذه الظاهرة، وليس انتهاء بالاحتفاء بأغاني المهرجانات التي تفضح كمية الغضب في نفوس المراهقين، ناهيك عن الاحتفاء بحالات الغش الجماعي، في وقت تؤكد تقارير أمنية ارتفاع استهلاك الحشيش والترامادول وغيرهما من المخدرات، ساعدت علي زيادة العنف المجتمعي، فيما يتم تشويه رموز التاريخ فصلاح الدين الأيوبي تعرض لموجة من التشويه حولته من بطل تحرير القدس إلي ما يشبه مجرم الحرب، فيما دأبت المواقع الإخوانية علي مهاجمة الزعيم جمال عبد الناصر وتلفيق الأكاذيب له التي وصلت إلي حد اتهامه بالعمالة لأمريكا وإسرائيل. الدكتور أحمد يحيي، أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة السويس، أكد أن الجملة المفتاحية التي يمكن من خلالها النفاذ إلي تحليل الواقع الاجتماعي الحالي هي "من أمن العقاب أساء الأدب"، فالأجيال الجديدة تعتمد علي عقل جمعي سلبي ناقم ورافض للمجمتع ككل، ويرغب في هدم جميع ما يقابله، فهم علي درجة من الكفر بالمجتمع لأنه يكفر بالثوابت الدينية والأخلاقية والسياسية والمجتمعية، لأنه لا يجد ما يشبع احتياجاته في العلاقات المجتمعية القائمة، فيمارس العنف اللفظي والجسدي ضد الجميع، وهو مسلح بما تبثه وسائل الميديا التي تستقي نموذجها الأعلي من نمط الحياة الأمريكي وهو ما لا يتناسب مع طبيعة مجتمعاتنا، ما يخلق حالة من حالات عدم الاستقرار في وعي الشاب الذي يجد نفسه ممزقا بين النموذج الأمريكي وما تربي عليه، فتولد الحيرة نوعا من أنواع التمزق الداخلي ويكون العنف المعبر عنه. وأكد يحيي أنه عندما تزداد قيم الفردية داخل المجتمع تزداد قيم العنف وإنكار النماذج التي يقدسها المجتمع، فلا يمكن الحديث عن رموز مجتمعية تحظي بالاحترام في ظل عدم قدرة الأفراد علي إشباع احتياجاتهم الأساسية فيظل وجود فوارق طبقية وتطلعات مالية لا يستطيع الواقع تلبيتها، فإنكار الرموز والسعي لتشويهها من أنواع العنف الذي هو تعبير عن اضطراب وخلل اجتماعي ونفسي يلجأ من خلاله الفرد أو الجماعة أو المجتمع إلي تحقيق غايتهم وأهدافهم بأساليب غير مشروعة وهو ما يؤدي إلي البلطجة المجتمعية، التي قد تأخذ شكلا سياسيا كما حاولت أن تمارسه جماعات التطرف والإرهاب وفي مقدمتها جماعة الإخوان، كما يمارس اقتصاديا من قبل بعض أصحاب رؤوس الأموال، وكلها أشكال تؤدي إلي فقدان المجتمع روح التعاون والنزوع إلي الصراع الداخلي مما يعوق عمليات التكيف والتطور الاجتماعي، وبالتالي يؤدي إلي العنف المجتمعي الذي يوجه إلي الرموز باعتبارها فشلت من وجهة نظر الغاضبين في خلق مجتمع أفضل. "ضعف الوازع الديني وغياب منظومة تربوية في المنزل السبب فيما نشاهده من تراجع حاد في أخلاق المجتمع خاصة عند الجيل الجديد"، هكذا قال الدكتور رشاد عبد اللطيف، أستاذ علم الاجتماع بجامعة حلوان، مضيفا ل"آخر ساعة": "المجتمع يعاني من ردة أخلاقية بسبب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الممتدة منذ عقود، ما أدي إلي أزمة وعي لدي الأجيال الجديدة التي تحمل الأجيال السابقة عليها مسئولية ما وصل إليه الوضع، لذلك نشأت كارهة لكل القيم الموجودة والرموز السابقة سواء كانت تاريخية أو سياسية أو فنية أو ثقافية، مثلا تجد المراهق لا يقبل علي الاستماع لأم كلثوم إلا عندما يسطو مطرب شعبي علي أغانيها ويؤديها بصورة فجة في الأفراح الشعبية". وأشار عبد اللطيف إلي أن انهيار الرموز بل والتهجم عليها نتيجة طبيعية لانهيار القيم الأخلاقية في المجتمع، وزيادة العنف بكل صوره، وهو نتيجة طبيعية لغياب التنشئة الاجتماعية التي تبدأ من البيت التي كانت الأسرة تحرص علي زرع القيم الدينية والأخلاقية في نفوس الأبناء سواء باحترام الكبير أو رعاية الصغير، لكن هذا تراجع للأسف الآن أمام اندفاع الجميع في سياق جمع أكبر قدر من الأموال، وغياب الفكر التربوي، فمثلا الأب عندما يُضرب ابنه في المدرسة، لا يبحث عن وسيلة عقاب عبر آليات المدرسة، بل يخبر ابنه أن عليه أن يضرب من ضربه، هذه الفكرة عندما تزرع في ذهن الطفل تكبر معه للاعتماد علي القوة لا القانون في مستقبل حياته. الأسرة وما تعانيه من تفكك داخلي نتيجة انشغال الأب بتوفير احتياجاتها المادية، ومرافقة الأم له وغيابهما ساعات طويلة عن المنزل، ليس السبب الوحيد في انهيار منظومة القيم في المجتمع، فالدكتور عبد اللطيف يؤكد أن أهم أسباب حالة الغضب عند الجيل الجديد تعود إلي أزمة المجتمع ككل بسبب غياب العدالة الاجتماعية مع شيوع قيم الفهلوة والواسطة والفساد التي تحطم الكثير من أحلام الشباب، ما ينتج عنه رد فعل عكسي عنيف من قبل المراهقين الذين تضيع زهرة أعمارهم في عملية تعليمية، تسلمهم إلي طوابير البطالة ما يتسبب في تزايد الإحباط عند الأجيال الصغيرة التي لا تستقي مثلها إلا من التليفزيون والسينما التي باتت تعتمد بدورها علي نموذج البلطجي وتروج لقيمه. وحذر عبد اللطيف من أن مشاكل الأسر الاقتصادية والاجتماعية ستؤدي إلي شيوع مزيد من قيم العنف في المجتمع، كما تتزايد معدلات الكفر برموز المجتمع وقيمه، بداية من الشاب العاطل الذي يتحول مع الوقت إلي شخصية عنيفة ترغب في الانتقام من المجتمع ككل بسبب ضياع فرصته في توفير احتياجاته الأساسية، وسيحاول ممارسة القهر الذي يُمارس عليه علي من حوله، وهو نفس موقف الفتاة التي يفوتها قطار الزواج، وتتحول إلي عانس متهمة من قبل المجتمع، ولا يختلف الوضع مع الأب الذي يفشل في مواجهة ضغوط الحياة، فيمارس العنف علي زوجته وأبنائه، في مثل هذا المناخ من الطبيعي أن تتم تشويه كل الرموز والقيم كنوع من أنواع العنف البديل الناتج عن الفشل في مواجهة الواقع المعاش. من جهتها، اعتبرت الدكتورة فاطمة الشناوي، الخبيرة التربوية ومستشار العلاقات الأسرية، أن غياب الأب عن الأسرة وتراجع دوره داخل الأسرة، أدي إلي تفاقم إحساس الأبناء بغيابه خاصة الذكور منهم، مما ولّد مساحة من العنف والرفض ضد رب الأسرة، وكل من يمثله خارجها وهنا يتم تشويه الرموز باعتبارها المعادل الموضوعي للأب علي مستوي المجتمع ككل، فما يحدث من ظواهر حاليا هي تنفيس وتعبير عن هذا الغضب الذي يتطور عند اصطدامه مع مشاكل المجتمع الأخري مثل انتشار الفساد والواسطة والبطالة، وهي أزمات تضغط علي نفسية الشباب الذي لا يجد مجالا للتنفيس عن غضبه فيتحول إلي العنف بجميع أشكاله، ويصبح عرضه لكل المؤثرات الخارجية التي تتلاعب به وتبث في ذهنه ما تشاء من أفكار حتي ولو كانت تتعارض مع ثوابت المجتمع وتدمر رموزه. وأشارت الشناوي إلي أن بعض الشباب يعتقد أن من ضمن أفكار "الروشنة" أن يهاجم كل ما تطوله يداه، وأن التطاول يعني أنه حصل علي شهادة اعتراف باستقلاليته، علي الرغم من أن هذا في معظمه غير صحيح لأنه في النهاية يخرج عن قيم المجتمع، ولا يطرح أي بديل حقيقي لقيم جديدة نستطيع أن نحيا في ظلها، كل ما يدعو له هي قيم عنف تعتمد علي استخدام القوة البدنية دون استخدام لملكات العقل، وهو أمر تغذيه السينما في علاقتها التبادلية مع المجتمع، تأخذ منه بعض السلوكيات المعينة ثم تعيد نشرها علي أكبر قطاع من المواطنين، فمثلا أفلام البلطجة والعنف مأخوذة من قطاع معين في المجتمع ثم تعيد بثها بين جميع الطبقات فتعمل علي تثبيت هذه القيم السلبية، التي يتأثر بها الشباب بصورة سريعة.