التغير المناخي تهدد دول العالم أجمع، لكنها باتت تهدد مصر بشكل خاص كونها تدخل ضمن نطاق الدول المتأثرة بشكل مباشر بعوامل الاحتباس الحراري، وذلك وسط تحذيرات أطلقها خبراء في مجال الزراعة والبحوث البيئية عن خطورة تلك التغيرات المناخية وتأثيرها المباشر علي انخفاض كمية المحاصيل الرئيسية التي تنتجها البلاد، لتضاف فاتورتها إلي كاهل مصر التي تستورد بالفعل ما يقرب من نصف احتياجاتها الغذائية. «آخرساعة» ناقشت هذه المشكلة مع مجموعة من المختصين في سياق التحقيق التالي. هناك العديد من الدراسات التي أجريت خلال الأعوام السابقة داخل مصر، خلصت إلي أن هناك مجموعة من المحاصيل من المحتمل أن يتضاءل إنتاجها نتيجة التغيرات المناخية. هكذا يؤكد الدكتور محمد عبدالستار أستاذ ورئيس قسم علوم المحاصيل بكلية الزراعة جامعة الإسكندرية، مشيرا إلي أن محصول القمح يأتي علي رأس قائمة المحاصيل المتوقع أن تنخفض خلال العقود القادمة بنسبة 18%، أما الشعير والذرة الشامية فستشهد انخفاضاَ بنسبة 19% والأرز بنسبة 17%، وهذا التأثير يأتي في الأساس من جراء زيادة مستوي ثاني أكسيد الكربون في الهواء، ما يؤثر بصورة مباشرة علي ارتفاع درجة الحرارة ونمو الوظائف الفسيولوجية للآفات الزراعية واختلاف نمط تكاثرها الأمر الذي سيكون له بالتبعية دور في خفض إنتاجية المحاصيل الرئيسية في مجمل أنواعها. يضيف: هناك دراسات أخري تسمي بدراسات الحساسية للمحاصيل المختلفة وهذا النوع من الدراسات هو الذي يحدد مدي استجابة المحاصيل للتغير في درجات الحرارة، والتي أكدت أنه في حال تعرض محصول مثل القمح لارتفاعات في درجة الحرارة بنسبة تزيد علي 2 درجة مئوية فقط عن المستوي الطبيعي ستنخفض نسبة إنتاجية القمح بنسبة 9% أما إذا ارتفعت درجات الحرارة بنسبة 4 درجات خلال موسم الإنتاج وخاصة فترة التزهير وفترة ملء الحبوب سيحدث نقص بنسبة 18%، كما أن الاحتياج المائي للمحصول سيزيد بمقدار 2 ونصف في المائة مقارنة بالاحتياج الذي يتطلبه المحصول خلال الظروف المناخية الحالية، بينما سيقل إنتاج الذرة الشامية بنسبة 19% لو أن درجة الحرارة زادت 3 ونصف درجة مئوية وذلك علي عكس بعض المحاصيل الأخري التي تزيد إنتاجياتها في تلك العوامل المناخية مثل القطن الذي ترتفع إنتاجيته بنسبة 17% لو أن درجة الحرارة زادت بنسبة درجتين فقط ولكن احتياجه المائي يتضاعف علي التوازي. كما أشار إلي أن المحاصيل المزروعة في مصر مقسمة حسب حساسيتها لدرجات الحرارة، لذلك فالمحاصيل التي تنمو في بيئة دافئة يتم زراعتها في الوجه القبلي، أما المحاصيل التي تحتاج إلي جو معتدل من درجات الحرارة فتتواجد في مدن الوجه البحري وبالتالي نجد أن محصولا مثل قصب السكر يزرع في الوجه القبلي، فإذا حدث ارتفاع طفيف في درجات الحرارة في تلك المنطقة تنخفض إنتاجيته بصورة كبيرة 24 في المائة ويزيد استهلاكه المائي بنسبة 2.3%. وأوضح عبد الستار أن هناك طرقا يمكن من خلالها تقليل التأثيرات المتوقعة للتغير المناخي علي المحاصيل داخل مصر من بينها العمل علي تحسين في الأصناف المنزرعة داخل البلاد بحيث إن التراكيب الوراثية المستخدمة في إنتاج البذور والمحاصيل يتم تعديلها لتتواءم مع ارتفاع درجات الحرارة المحتمل، وهو المطلوب تطبيقه علي محاصيل بعينها مثل القطن والقمح والذرة الشامية وأيضا زهرة عباد الشمس و الطماطم، فمن المفترض أن يكون هناك اتجاه فعلي من الدولة لإنتاج تراكيب وراثية خاصة بهذه الأصناف تتحمل ارتفاع درجات الحرارة، بالتوازي مع اتخاذ اتجاه آخر يمكن أن يساهم في سد الفجوة عبر استنباط الأصناف التي تتميز بقصر موسم نموها، بمعني التوسع في إنتاج محاصيل تأخذ فترة زمنية للنمو أقل من المعتاد وبالتالي فإن الفترة الحساسة من حياة المحصول أو النبات التي تتأثر بالحرارة العالية يتم تجاوزها بطرق فعالة لتأمن بذلك التقلبات المناخية. وهناك اتجاه آخر يتمثل في تغير مواعيد الزراعة وفقا للتغيرات المناخية لتتناسب مع الاختلاف الحادث في درجات الحرارة، بحيث يتم التقليل من النقص الحاد في المحصول وكذلك التقليل من نسبة الزيادة في استهلاك المياه. يتابع: مصر كدولة تمثل الزراعة بها جزءا رئيسياً من العصب العام للاقتصاد، لكن القطاع الزراعي في حد ذاته قطاع هش أي أنه سريع التأثر بالتغيرات المناخية لذلك يجب الأخذ في الاعتبار عند وضع السياسات الزراعية المستقبلية أن منطقتنا موضوعة ضمن قائمة المناطق مرتفعة الأولوية في ضرورة إحداث أسلوب جديد للتأقلم مع التغير المناخي، لذلك لابد للنظام الزراعي العام في مصر أن يحدث به نوع من التطوير، بحيث إن جزءا منه يعتمد علي أسلوب المحاكاة أو التأقلم مع التغيير المناخي وجزء آخر يعتمد علي قراءة للنتائج المتوقعة في المستقبل وآثارها علي الزراعة المصرية. من جهته، يؤكد المهندس ثابت إسماعيل مدير عام المحاصيل بالهيئة الزراعية المصرية أن نسبة 1% من أراضي مصر مهددة بالغرق جراء ازدياد درجات الحرارة وارتفاع مستوي سطح البحر أي ما يوازي 25% من الأراضي الخصبة في الدلتا، ما سينعكس بطريقة سلبية علي إنتاج المحاصيل الزراعية الرئيسية في مصر. بينما يشير د. محمود هاني أستاذ قسم الهندسة الزراعية بجامعة المنصورة إلي أن العامل البشري حاضر بقوة إلي جانب عوامل التغير المناخي ليساهم بدوره في عملية نقص المحاصيل وذلك عبر تجريف التربة والبناء علي الأراضي الزراعية، موضحاَ أن تجريف طبقة سمكها سنتيمتر واحد من التربة الزراعية الخصبة لايمكن تعويضها إلا بعد خلال 100 عام وهي الفترة اللازمة لإعادة تكوينها، كما لفت إلي أن معظم أراضي الدلتا القديمة التي تعد من أخصب الأراضي الزراعية في مصر هي عبارة عن أراض رسوبية تكونت من طمي النيل وهي تشهد الآن تعديات كبيرة ما يتسبب في تقلص المساحة المنزرعة داخل البلاد. كما أوضح أن هناك مشاكل كبيرة جداَ تتعلق بالاحتياجات المائية للزراعة في ضوء التغير المناخي الموجود حالياَ نتيجة ارتفاع درجات الحرارة أو الإدارة السيئة للمياه خلال عملية الري، وخلافاَ لما كان يحدث سابقا حيث كانت وزارة الزراعة تحدد نوعية المحاصيل المنزرعة للفلاح علي زمامات الترع فيما يعرف بنظام الدورة الزراعية، لكن للاسف تم إلغاء هذا النظام منذ فترة طويلة، رغم أنه كان نظاماَ فعالاَ في تحديد احتياجات مصر الفعلية من كل محصول علي حدة، فالمزارعون الآن يتجهون إلي زراعة المحاصيل التي تحقق لهم أكبر نسبة ربح بغض النظر عن التوازن المفترض أن يكون في نسبة إنتاج كل محصول ليتناسب مع موارد البلاد سواء كانت المائية أم الزراعية، لذلك فالعشوائية هي الغالبة علي عملية الزراعة، فمثلا محصول الأرز من المحاصيل المجزية التي يتم بيعها بسعر مرتفع للفلاح، ما يدفع العديد منهم إلي الاتجاه للتوسع في زراعته علي حساب الأصناف والمحاصيل الأخري. وأكد أن محصول الأرز من المفترض أن تتم زراعته في مناطق شمال الدلتا بدءا من مركز ميت غمر حتي الساحل الشمالي ولا يتم زراعته في الجزء الجنوبي من الجمهورية أو من جنوب ميت غمر حتي المنيا وبني سويف توفيراَ لمصادر المياه ولكن هناك البعض ممنَ يسعي وراء الربح السريع عبر زراعته في تلك الأماكن رغم إمكانية توجيه تلك الموارد المائية نحو زراعة أصناف أخري فلذلك عندما تقوم الدولة بإنتاج الأرز وتصديره للخارج فكأنما تصدر المياه فقط لا غير. أما الدكتورة سامية المرصفاوي رئيس وحدة بحوث الأرصاد الجوية الزراعية والتغيير في المناخ فأشارت إلي أن ما تشهده مصر حاليا يدخل في طور التقلبات المناخية، ولكنه ليس تغيراَ مناخيا بالمعني المفهوم أي أنه عبارة موجات جوية عنيفة مدتها لا تتجاوز يومين أي فترة زمنية قصيرة ولكن هذه التقلبات الجوية تعد أخطر من التغيرات المناخية الكلية علي الرغم من أنها تعد نتيجة مباشرة لها كونها تحدث علي فترات قريبة وطول الموجة المناخية لهذه التقلبات يعد أطول وتكون شدتها أعنف مايسبب الكوارث علي الصعيد الزراعي مشيرة إلي أن مصر لن تشهد تغيرات مناخية حقيقية إلا بحلول منتصف القرن الحالي أي بحلول عام 2050. تتابع: من المتوقع أن تكون هناك منطقتان تدخلان ضمن المناطق الأكثر تأثراَ بالمناخ داخل نطاق الأراضي المصرية وهي منطقة الدلتا وكذلك منطقة الصعيد، فإذا شهدت المنطقة الزراعية القريبة من السواحل المصرية أي ارتفاع في مستوي سطح البحر جراء ازدياد درجات الحرارة من المحتمل أن يؤدي ذلك إلي فقد حوالي12% من إجمالي أراضي مصر الزراعية الخصبة التي تكونت عبر آلاف السنين، علاوة علي تملح جزء آخر من الأراضي القريبة منها وارتفاع مستوي الماء الأرضي لجزء ثالث من تلك الأراضي لتكون المحصلة النهائية فقدان أراض زراعية خصبة كان يمكن استغلالها لسد هذه الفجوة الغذائية، وللأسف نحن نذهب للاستصلاح في الأراضي الصحراوية بدلا من الحفاظ علي الأراضي الطينية الخصبة وبدلا من أن نحافظ عليها ونتجنب البناء عليها عبر التنويع في البناء علي الأراضي الصحراوية ولكن عوضاَ عن ذلك فمصر تكاد تكون هي الدولة الوحيدة التي تبني فوق الأراضي الزراعية وتستصلح الأراضي الصحراوية، وعلي الجانب الآخر فإن منطقة الصعيد التي تتميز بدرجات الحرارة العالية، ستشهد تحت ظروف التغير المناخي القادم المزيد من الارتفاع في درجات الحرارة، ما سيؤدي إلي خلق ظروف بيئية صعبة في هذه المنطقة. كما أكدت أن التغير الحالي في المناخ يشكل خطراَ كبيراَ للغاية علي أمن مصر الغذائي نظراَ لأن ما يقرب من 50% من احتياجات مصر الفعلية يتم استيرادها من الخارج ومن المتوقع أن تزيد كميات الاستيراد في ظل تلك الظروف المناخية، فمثلا محصول مثل القمح نسبة الاكتفاء الذاتي منه حالياَ لا تزيد علي 65% ولكن تحت ظروف التغير المناخي القادم من المتوقع أن تنخفض تلك النسبة إلي 45% فإذا وضعنا في الاعتبار ارتفاع تعداد السكان خلال السنوات القادمة تتقلص تلك النسبة إلي 24%، بينما ستنخفض إنتاجية الأرز بحوالي 11% وبالتزامن مع زيادة احتياجاته المائية بنسبة 16% بينما سيقل إنتاج فول الصويا بنسبة 28% أما محصول الطماطم فمن المتوقع أن يشهد النسبة الأكبر من الانخفاض في الإنتاج والتي ستصل إلي 51%.