لايهمني اسمك.. لايمهني عنوانك لا يهمني لونك.. ولا ميلادك يهمني الإنسان.. ولو مالوش عنوان وعنوان «يوسف شاهين» الآن في السماء محلقا بحرية طالما حلم ونادي بها في حياته وأفلامه.. ومازال هو يطل علينا من عليائه ينادي بأن تعلو أصواتنا بالغناء يقينا بأنه «لسه الأغاني ممكنة»، ففي الأغاني والأماني حياة.. «يوسف شاهين» الذي عرض له المهرجان ثلاثة أفلام هي: إسكندرية ليه.. و«حدوته مصرية» و«إسكندرية نيويورك» تكريما له وللفن.. ولدوره الريادي في العالم العربي، لذلك عندما طلب مني الصديق الناقد الجزائري الكبير «سليم أقار» عضو لجنة تحكيم الأفلام القصيرة، رغبته في أن يزور قبر يوسف شاهين.. حيث يقوم بإعداد فيلم عنه.. وعن علاقته بالجزائر التي فتحت له ذراعيها واحتضنته فترة من الزمن كانت عصيبة عليه.. وموّلت له أفلاما.. ولذلك فإن الجزائريين يعتبرون يوسف رحمه الله أحد رموز «الحرية».. فقد كان الوحيد القادر علي انتقاد أي شيء في الجزائر أو أي بقعة في العالم العربي.. دون أن يغضب أحد منه. في هذه الزيارة رافقتنا قامة كبيرة هي الفنانة الجزائرية «فريدة عرموش» واحدة من أشهر ممثلات المسرح والسينما والتليفزيون.. «السنوات السوداء» في الجزائر أجبرتها علي الهجرة لفرنسا وذلك بعد أن تلقت تهديدات عديدة بالقتل.. وحيث كان هناك الكثيرات من الصحفيات والأطفال قتلي وضحايا قوي الإرهاب. ومن سوريا الحبيبة كانت الناقدة (لمي طيارة).. والصغيرتان «رحمة».. و«وعد». في الشاطبي وفي مقابر (مدفن الروم الكاثوليك) يوجد قبر يوسف شاهين الذي بني من الرخام علي شكل هرم .. «سعد» حارس المقبرة من أقصي الصعيد قال لنا: إن الأستاذ مدفون بمفرده في هذا القبر.. لقد أوصي بذلك ولايريد لأحد أن يدفن معه.. وذلك غير بعيد عن قبر أبيه «أديب» ومقبرة أخري لشقيقته وعائلتها.. وإن تصميم المقبرة علي شكل هرم كان إحدي «وصايا» الأستاذ.. ليضيف بعد ذلك قائلا: «ماهو كمان هرم» ذاع صيته في العالم كله وشرفنا.
الفن الجيد الراقي لغة عالمية موحدة، همزة وصل ثقافية بين بلدان العالم.. الفن نور الحياة ووقودها.. في فترات الظلام يحاول البعض وأده وقتله.. وقد عانت الجزائر سنوات من حكم السلفيين المتأسلمين الذين أشاعوا الفوضي والإرهاب في البلاد.. سنوات عصيبة عاشتها الجزائر دفعت فيها ثمنا كبيرا.. من الضحايا وأكثرهم من النساء والأطفال. المرأة العاملة كانت بمثابة الكافرة.. «طبيبة» أو «معلمة» فما بالك «بفنانة». ولذلك لم يكن غريبا أن تهرب سيدات فضليات إلي أوروبا وبالتحديد فرنسا.. أعرف طبيبة شهيرة.. تلقت العديد من رسائل القتل.. فأجبرت أن تخرج متخفية إلي المطار لتسافر في الخفاء بعد أن ألح عليها زوجها وأبناؤها أن تهرب بعيدا.. وهم سوف يرحلون بعد ذلك إلي منطقة أو مدينة أخري بعيدا عن العاصمة. وأخري «مديرة» مدرسة كانت ذائعة الصيت.. جعلت من مدرستها واحدة من أقدر المدارس الجزائرية.. كل جريمة السيدة أنها لم تتزوج ورفضت أن ترتبط بأحد هؤلاء المجاذيب عرفيا أو متعة أو تحت أي مسمي.. فكان نصيبها التهديد بالقتل.. وعندما حاصروا المدرسة.. هربت من باب خلفي لتتجه إلي المطار ومنه إلي فرنسا وهي لاتحمل سوي حقيبة يدها وبها بعض النقود التي لاتفي احتياجاتها.. واضطرت هي «المعلمة» الفاضلة أن تقبل بأعمال (الخدمة) لكي تعيش وتنجو بحياتها.. وعندما حاولت العودة مرة أخري بعد سنوات طويلة وجدتهم وقد نهبوا منزلها واستولوا علي كل شيء. إنها جراح عميقة حفرت في القلب وأصابت الجسد من بعض أبناء الوطن الذين لا يستحقون أن يحملوا اسمه ولا أن يتشاركوا أرضه.. فقد أفقدوه أمنه وأمانه وروّعوا أهله. هذه الحكايات كانت آلامها مضاعفة لدي الفنانة القديرة «فريدة عرموش» وهي سيدة بسيطة سمحة الوجه والسريرة.. عرفت الشهرة في بداية الستينات فكانت واحدة من أشهر نجوم المسرح الوطني الجزائري حصلت علي العديد من الأوسمة والنياشين والجوائز.. كما اشتهرت في عالم السينما ومن بعده التليفزيون.. ورغم أني لا أحب التشبيه.. إلا أنك تستطيع القول بأنها مزيج من الراحلة سناء جميل وأطال الله في عمرها سميحة أيوب في المسرح.. وفي السينما هي فاتن حمامة وماجدة مجتمعات. فريدة كانت الجزائر عشقها.. وتراب بلدها هو أمانها ومصدر الطمأنينة لها.. لكن أمام التهديدات ومحاولات القتل التي لم تنجح.. لم يكن أمامها سوي الهرب.. هربت لفرنسا وهي تحمل معها بعضا من تراب بلدها.. تتشممه .. وتتنفسه. كان عليها في بلاد الغربة، وهي الممثلة الشهيرة، أن تكمل مشوارها الفني.. بأدوار أقل من مكانتها بكثير.. لكن لأنها تؤمن بأنه ليس هناك دور كبير وآخر صغير.. قبلت الظهور في أفلام صغيرة.. لكنها كانت فيها علامة مضيئة.. مما جعل اسمها وهي في الغربة يعلو أسماء ممثلين فرنسيين.. لكن الحقيقة التي يجب ألا ننكرها.. أن هناك عنصرية شديدة وصعوبة أكثر تواجه الفنانين العرب هذه الأيام بالتحديد في فرنسا. «فريدة» تحمد الله كثيرا لأنها الآن تستطيع أن تزور بلدها وتعود إليه من وقت إلي آخر.. وتقدم أعمالا فنية رائعة.. لقد ثبت أن الفن هو إحدي وسائل المقاومة للتطرف.. والتخلف.. وهو المنارة لطريق مفتوح الأفق لتعدد الثقافات.. «فريدة» بكت بحرقة ومرارة شديدة أمام قبر «يوسف شاهين» صاحب «جميلة» و«المصير» و«باب الحديد» وأفلام أخري كشفت هموم الإنسان.. لم تقتصر علي المكان ولا الزمان.. فالسينما عالم مفتوح الجغرافيا لا محل لها من الإعراب.. لكن للتاريخ كل احترام وتقدير وممنوع تماما من التزييف. «فريدة» عرض لها في المهرجان الفيلم المغربي «الحمي» إخراج هشام عيوش الذي قدم أول أفلامه الروائية «حواف القلب» عام 2006. في فيلم «الحمي» ألقي «هشام» الضوء علي الجالية العربية الكبيرة من شمال أفريقيا التي تعيش في ضواحي باريس.. جالية كبيرة قد تغير في شكل فرنسا غدا.. الأبناء يتعاملون مع الدين الإسلامي والثقافة العربية كأنهما (فلكلور) لايعرفون الكثير من التعاليم ولا يتفاعلون مع جذورهم.. الانتماء لفرنسا وثقافتها دون وعي بجذروهم جعل منهم هدفا سهلا لانحراف الشباب والعنف.. وأيضا اصطادتهم الجماعات المتطرفة.. لينضموا إليها ويصبحوا صورة سيئة للمسلمين. «هشام عيوش» وضع يده بصدق علي عورات هذه الجاليات نقاط ضعفها.. وقوتها والحياة غير الآدمية التي يعيشها البعض.. وحالة اللامبالاة الشديدة تجاه الأجيال الصغيرة وانغماسهم في العنف.. والغريب وحسب الإحصائيات أن الفتيات العربيات أكثر حظا من الشباب.. والحظ ليس مجرد صدفة لكنه ناتج عن جدية في الدراسة وفي الحياة لأن كلا منهن تؤمن بأنها سوف تملك المستقبل بمدي نجاحها في الدراسة. وبأنها الوسيلة والطريق الوحيد لحصولها علي حريتها الحقيقية. بطل الفيلم الصغير «بنيامين» منغمس في العنف عرف الطريق دائما إلي دور الرعاية الاجتماعية.. من المفترض أنه يتم تهذيبه وتعليمه لكن للأسف معظم هذه الدور يتأصل فيها الإجرام.. وعندما يحكم علي والدته بالسجن كان عليه أن يذهب ليعيش مع والده الذي لم يعرفه.. ليكتشف الأب والضواحي التي تسبب صداعا للعاصمة. «يهمني الإنسان» في أي مكان.. وزمان.. خاصة الإنسان «الشقيان» «الغلبان».. «الكادح».. صورة هذا الإنسان محفورة في قلوبنا صغارا نلهو علي «شط الإسكندرية».. الصعيدي الأسمر بلون الطين.. الذي ترك الوادي والنهر وأتي إلي شط البحر ويجوبه من الأنفوشي للمعمورة.. وهو يحمل صندوقا زجاجيا مليئا بالحلوي «الفريسكا».. ونحن الصغار نجري خلفه بطول الشاطئ وعرضه لنشتري الحلوي حتي نضيع ملوحة ومذاق البحر من فمنا.. صورة قديمة بالأبيض والأسود.. وحديثة بالألوان لنا نحن أطفال زمان والآن أبناؤنا وأحفادنا.. «الفريسكا» «بالبندق» و«السمسم» كلنا يعشقها مع الطائرات الورقية التي تملأ سماء الشواطئ. هذه الصورة الإنسانية التقطتها بذكاء شديد وبصدق أشد مخرجة شابة.. واذكروا اسمها جيدا في أول عمل تقدمه «لليان رأفت رمزي» حيث قدمت صورة عن بائع «الفريسكا» في الصيف علي طول شواطئ الإسكندرية.. وهم جميعا من القادمين من الصعيد.. حطوا الرحال في «الثغر الجميل».. مع «الغلاء» باتت الحياة أكثر قسوة.. خاصة أن رزق «الفريسكا» في الصيف فقط.. والصيف رغم أنه «نار» لكن عمره في المصيف قصير.. لقد استحقت لليان أن تحصل علي جائزة لجنة التحكيم الخاصة للأفلام القصيرة عن فيلمها الذي لم يتجاوز العشر دقائق لكنها نجحت في أن تقدم فيه صورة صادقة «لشط إسكندرية» وبائعي «الفريسكا» الذين باتوا من الضروري أن «يشدوا الحزام علي وسطهم» مثل باقي أهل المحروسة.. «لليان» من القاهرة وإن اعتقدت لجنة التحكيم أنها في الإسكندرية لحساسية الصورة..