يواصل الدكتور مراد غالب وزير الدولة للشئون الخارجية الأسبق شهادته علي سنوات حكم عبد الناصر.. وقد ظل أكثر من عشر سنوات سفيرا لمصر في موسكو، وهناك أتيح له أن يتابع عن بعد أحداثا خطيرة في مصر، لكنه بعد الحسابات الجغرافية، وليس رؤية العين، وهناك في العاصمة السوفيتية استطاع أن يكون في قلب دوامات علاقاتنا مع السوفييت التي لم تهدأ تقلباتها مابين الدفء والحرارة، وبين الصراعات الظاهرة والخفية.. وأتيحت له وهو هناك فرصة نادرة لرصد الصراع بين عبدالناصر وعبدالحكيم عامر، خاصة لقاءاته مع المشير منفردا أو مع مجموعته، في زياراته المتكررة للاتحاد السوفيتي، ووصلت به أحداث موسكو التي عاشها شاهد عيان، إلي ذراها بحرب 67، وما سبقها وتلاها.. منذ رواية الحشود الإسرائيلية علي سوريا، وزيارة شمس بدران الشهيرة، وتراجيديا الهزيمة، ولقائه بعبدالناصر بعدها بأيام، في جلسة مكاشفة، استكملت فصولها في زيارته للاتحاد السوفيتي للعلاج في مصحة تسخالطوبو الرئيس ناصر: لم يكن في حساباتي الاعتماد علي السوفييت لو قامت الحرب! قلت لعبد الناصر: بطرس الأكبر قيصر روسيا كان يردد دائما: إننا نحتاج أن يضربنا السويديون (علقة) من حين لآخر حتي نفيق الجنرال لاشينكو أكد قدرتنا علي عبور قناة السويس.. لكن القيادة السوفيتية لاتريد في هذه المرحلة حدوث عمليات عسكرية واسعة النطاق وفي التفاصيل يحكي مراد غالب.. يقول : وصلت إلي القاهرة قادما من موسكو في أواخر يونيو 1967 - بعد العدوان - وتم استدعائي لمقابلة جمال عبدالناصر. ليس هذا عبد الناصر جلست أنتظره في الصالون الخاص بالزوار.. وما إن دخل الغرفة حتي شعرت بأنني أري شخصا آخر.. ليس هذا هو عبدالناصر. كان منهكا واجما، تظهر عليه بكل وضوح آثار الهزيمة الساحقة، ومن الطبيعي أن يكون في منتهي الحزن والألم، فعبد الناصر كان الزعيم الذي يحرك الشارع العربي من الخليج إلي المحيط.. وهو الرجل الذي رفع مع تيتو ونهرو لواء عدم الانحياز، وكان له دوره الهائل في حركة تحرير الشعوب، بل أستطيع القول إنه لعب دورا فاعلا ومباشرا و أساسيا في تحرير أفريقيا. وكان عبدالناصر زعيما له وجوده الملموس في أرجاء العالم العربي.. هذا الزعيم لابد أن يكون قد تأثر تأثرا بالغا بهذه الهزيمة. جرت أمام عيني هذه الخواطر، في تلك اللحظة التي رأيته فيها لأول مرة بعد الهزيمة. بادرني الرئيس عبد الناصر بقوله: «شايف إيه اللي حصل لنا يا مراد». قلت حصل إيه يا سيادة الرئيس حتي أراك بكل هذا الحزن والألم»؟.. نحن هزمنا في معركة، فليكن، لقد انهزمت دول وزعماء كثيرون قبلنا.. لكن ألا تري أن هذه المعركة بيننا وبين إسرائيل أدت علي الأقل إلي عوامل إيجابية، مع عدم التهوين من فداحة الخسارة؟ قال لي: انت هاتتفلسف؟!.. انتظر حتي أغلق جهاز التكييف.. فالغرفة صارت شديدة البرودة.. وأغلق جهاز التكييف ثم جلس وقال: قل لي ما هي تلك النواحي الإيجابية التي تتحدث عنها؟ قلت: أولا: وهل كان ممكنا لنا التخلص من الانكشارية العسكرية التي حاولت السيطرة علي مقدرات هذا البلد، وإدارته بطريقة فاسدة، وبما يقرب من عمل المافيا. فنظر عبد الناصر نحوي وبتركيز عميق لنظراته النفاذة المعروف بها ليستشف ما في داخلي. قلت: بالطبع سوف تسألني ياريس: لماذا لم أذكر لك هذا الكلام من قبل؟.. وإجابتي أنك تعرف هذا وتفاصيله أكثر مما أعرفه أنا عشرين مرة. فقال: ثم ماذا أيضا؟ قلت ثانيا: كان بطرس الأكبر قيصر روسيا يردد دائما: إننا نحتاج أن يضربنا السويديون «علقة» من حين لآخر، لكي نفيق. ثالثا: نحن هزمنا في معركة، لكن الصراع مازال مستمرا، ويجب علينا أن نركز علي كيفية التعامل مع الوضع كما هو عليه الآن بروح التحدي، وأنا آسف لقولي هذا، فأنا علي يقين بأنك القائد الذي يتسم دائما بروح التحدي. وأخذت أشرح ما الذي يمكن أن نفعله الآن، وناقشنا ما الذي نستطيع أن نطلبه من الاتحاد السوفيتي في هذه المرحلة، وبعد أن فقدنا معظم أسلحة القوات المسلحة. وسألني الرئيس: هل قلت كل ما عندك؟ وكنت فعلا قد أنهيت كلامي. فقال لي: إذن اسمع ما سأقوله أنا، وأخذ يشرح لي كيف يفكر في إعادة تنظيم القوات المسلحة علي أسس جديدة تماما، يراعي فيها الانضباط والروح العسكرية والتدريب الجدي والشاق بالنسبة لجميع فروع القوات المسلحة. وقال: التدريب هو أهم شيء، ولاشك أن السلاح سيساعدنا، لكن المهم للغاية هو التدريب والإنسان المقاتل، وعلينا تجهيز الإنسان الذي يقاتل من أجل مبادئ ورؤية مختلفة تماما عن الرؤية التي سادت في الفترة الماضية، التي جعلتهم يتطلعون للمناصب المدنية البراقة، أي يجب أن تكون العسكرية هي أعظم ما يحلم به إنسان في هذه المرحلة. عملية غسيل للعقول وقال: إننا بحاجة لعملية «غسيل للعقول»، سواء بين القوات المسلحة أو الشعب كله، لنزيل أي فهم بأن إسرائيل قوة لا تقهر، فإسرائيل حققت نجاحها الكبير في حرب يونيو، بسبب أن القيادة العسكرية عندنا كانت مهلهلة وضعيفة، وقد انعكست صورتها علي القوات المسلحة بكاملها، فصارت هي الأخري مهلهلة، وكل سلاح فيها كان في حالة استقلال عن باقي الأسلحة، وهذا شيء يحول دون وحدة القوات المسلحة أو أدائها لعملها كفريق عمل. وقال: كما رأيت فقد عينت الفريق أول محمد فوزي قائدا عاما للقوات المسلحة وأظنك تعرفه، قلت نعم أعرفه جيدا، وهو رجل عسكري حازم وملتزم تماما بالانضباط العسكري.. كما كان اختيار الفريق عبدالمنعم رياض كرئيس للأركان اختيارا موفقا للغاية أيضا، فهو رجل فاضل، وعلي علم كبير في مجالات العلوم العسكرية والفن العسكري. واتفقنا في هذا اللقاء علي ألا نتكلم وحدنا مع السوفييت بل نشرك معنا الجزائروسوريا، لإيجاد ضغط أكبر علي السوفييت ليمدونا بأسلحة متطورة تساعدنا علي استعادة أراضينا. وسألته: هل كان في حسابه قبل الحرب أن يعتمد علي السوفييت لو قامت الحرب؟ فقال: لا ، لم يكن هذا في حسابنا. ثم سكت، ولم يذكر علي من كان يعتمد.. ولم أشأ أن استزيده أيضاحا فليس من اللائق أن أوجه سؤالا كهذا لرئيس الجمهورية. لكنني من ناحيتي شعرت بارتياح لما كنت قد كتبته وأرسلته إليه عن محاضر الجلسات مع رئيس الوزراء السوفييتي كاسيجين، وتحليلاتي الشخصية عن الموقف قبل الحرب وشعرت بأنه كان مقتنعا بما كنت أكتبه إليه، وأنه أهتم بقراءته، وتوصل إلي النتيجة المؤكدة وهي أن السوفييت لن يشاركوا في الحرب، بعكس ما قاله شمس بدران. ثم قال الرئيس: يا مراد.. أنا تعبان، ولا أستطيع أن استمر معك في هذا اللقاء أكثر من هذا، وأحب أن أراك غدا. وللأسف فإنه كان متعبا في اليوم التالي، ولم أتمكن من مقابلته. تستطيعون عبور القناة بعد ذلك أرسل الاتحاد السوفيتي إلي مصر وفدا عسكريا برئاسة المارشال زخاروف، وكان رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة السوفيتية، يصحبه فريق من الخبراء العسكريين، وتقرر تغيير المستشار العسكري السوفيتي وعين بدلا منه الجنرال لاشينكو، وكان رجلا محاربا وعلي جانب كبير جدا من الشجاعة. وقدر روي لي الفريق عبد المنعم رياض أنه اصطحب معه الجنرال لاشينكو في إحدي المرات التي كان يتفقد فيها وحداتنا التي تواجه مباشرة خط بارليف علي ضفاف قناة السويس.. وفي أحد المواقع التي يكون فيها المجري المائي للقناة في أضيق نقاطه ولايفصلنا عن المواقع الإسرائيلية سوي هذا المجري، طالب لاشينكو بأن تطلق وحداتنا النار علي المواقع الإسرائيلية التي ردت في الحال بإطلاق النيران.. واستفهمت من لاشينكو عن غرضه من هذا الاختبار، فقال: كنت أود معرفة مدي الوقت الذي يمضي قبل أن يرد الإسرائيليين بإطلاق النار. وقد عاد لاشينكو إلي موسكو في عام 1968 بعد صدور قرار تعيينه نائبا لرئيس أركان حرب القوات البرية، وقابلته وقتها وسألته: هل تستطيع القوات المصرية عبور قناة السويس؟ أجابني مؤكدا طبعا تستطيع، لكن لاتنقل عني هذا الرأي في موسكو وإلا أصابهم الذعر، فهم لايريدون في هذه المرحلة حدوث عمليات عسكرية واسعة النطاق، ويقولون إن القوات المصرية غير قادرة علي مثل هذه العمليات. ولم يكن الجنرال الذي أرسله السوفييت ليحل محل لاشينكو في مصر علي نفس مستوي كفاءته، وكان شخصية سياسية أكثر منه شخصية عسكرية مقاتلة. وشعرت أن السوفييت لايريدون لنا أن نقوم بعمليات عسكرية قد تؤدي إلي اندلاع حرب شاملة علي ضفاف قناة السويس في هذه الأثناء. ولم تكن القوات المسلحة المصرية راضية عن الأسلحة السوفيتية التي وصلت إلي مصر، فقد كانت أسلحة عادية، ولدي مصر الكثير منها، بينما القوات المسلحة تحتاج أسلحة متطورة، فحدث استياء في القوات المسلحة، وكان الفريق مدكور أبو العز أكثرهم مجاهرة باستيائه، وكان رجلا معتزا بنفسه جدا، ومنضبطا تماما، ولديه كفاءة إدارية عالية، ولم يرضه هذا الحال فقدم استقالته من منصبه.