بدأت الحياة تدب في شوارع "وسط البلد" مع تغير في ملامح المدينة الثقافية، مع تدشين عدد من المكتبات المتخصصة في بيع الكتب الثقافية، عاكسة تغير ذائقة قارئ مطلع الألفية الميلادية الثالثة، كاشفة عن تغيرات غير منظورة لمن لا يتدبر؛ فمكتبات شابة بدأت تفتح أبوابها أمام شريحة من القراء الشباب، تكتسب زخم القاهرة الثقافي كمكتبات "الشبكة العربية للأبحاث" و"تنمية" و"عمر بوك ستورز" و"سنابل" و"دار التنوير"، التي استطاعت أن تملأ فراغا ناتجا عن غياب بعض أشهر مكتبات القاهرة التي اكتسبت سمعة تاريخية. لكن معظم تلك المكتبات تخصصت في بيع الكتب لدور نشر مختلفة؛ مصرية وبيروتية وسورية ومن بلاد المغرب، وباستثناء مكتبة "الشبكة العربية للأبحاث" و"دار التنوير"، التي تنشر أعمال الدار بالإضافة لمنشورات مختلف الدور العربية، تكاد تختفي ظاهرة المكتبة المتخصصة في طباعة ونشر وبيع الكتب، وهي ظاهرة ميزت القاهرة الأدبية لعقود. في صمت مكلل بالخجل أغلقت أبواب مكتبة "النهضة المصرية" في شارع عدلي، وهي إحدي أعرق مكتبات القاهرة الأدبية، تأسست منذ أكثر من 80 عامًا، أخرجت خلالها العديد من الروائع فضلا عن ذخائر تراثية، ويكفي أن نعلم أن بعض من تولت الدار نشر كتبهم، عمالقة بحجم، عباس محمود العقاد، صاحب العبقريات، ومحمد حسين هيكل، مؤلف زينب، وأحمد أمين، كاتب سلسلة فجر وضحي وظهر الإسلام، ومحمود تيمور، القاص الكبير، ويوسف السباعي، صاحب السقامات، وعبد الرحمن بدوي، الفيلسوف والمفكر الوجودي، وغيرهم كثير. لكن من زار المكتبة بشارع عدلي في السنوات الأخيرة، يعرف كيف انهارت المكتبة وعلاها الإهمال بعد أن هجرها القراء، ولانعلم هل اختفت مكتبة النهضة المصرية من الوجود أم انتقلت إلي مكان آخر، لكن المؤكد أن المكتبة العريقة لم يعد لها أي وجود في شارع عدلي. وعندما زرنا المكتبة منذ عدة أشهر، كانت عوامل الزمن قد أناخت علي المكان، والكآبة تعلو وجوه العاملين، فالأتربة التي تعلو الكتب تشي بأن لا أحد تصفح تلك الكتب منذ أشهر، قال أحد العاملين وقتها ل"آخر ساعة": "مافيش حد بيشتري كتب يا بيه"، كانت مقدمات منطقية للنهاية المأساوية بإغلاق المكتبة العريقة. مصير "النهضة المصرية"، يطارد الآن واحدة من أعرق المكتبات في القاهرة الثقافية، هي مكتبة "البابي الحلبي" بفرعيها مصطفي الحلبي وعيسي الحلبي، فالمكتبة التي يعود أصلها إلي منتصف القرن التاسع عشر، عندما أسس أحمد الحلبي القادم من بلاد الشام، مكتبة "الميمنية"، بالقرب من الجامع الأزهر، لتكون أول مكتبة متخصصة في طبع الكتب في مصر، لم يرحمها الزمن وبدأت عوامله تؤثر علي تلك المكتبة. فعدم إنجاب أحمد الحلبي جعله يستدعي أبناء إخوته من الشام، الذين تولوا إدارة المكتبة، قبل أن يشق كل منهم طريقه في عالم النشر، ليؤسس عيسي البابي الحلبي دار "إحياء الكتب العربية" في حي الحسين بمنطقة سوق الخضار، تعاني الوحدة، وانزوت تؤلف الكتب الخاصة بطلبة المعاهد الأزهرية. بينما أسس مصطفي البابي الحلبي مكتبة ومطبعة "مصطفي البابي الحلبي"، بالقرب من ميدان باب اللوق، لكن من يزور تلك المكتبة العريقة يتحسر علي ما آلت إليه أمورها، فالأتربة التي تعلو الكتب القديمة التي تعود سنين طبعها إلي منتصف القرن المنصرم، كافية لتعطيك لمحة عن تراجع تلك المكتبة العريقة، كونها علي حافة التلاشي في يوم غير بعيد. لتدرك حجم الخسارة يكفي أن تعرف إن مكتبة مصطفي الحلبي كانت أول من طبع ألف ليلة وليلة، بطريقة الجمع اليدوي البديعة، حتي صدر قرار من الأزهر بوقف طباعتها. يؤكد الدكتور أيمن فؤاد سيد، أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر والمتخصص في تاريخ القاهرة، أن القاهرة كانت منذ تأسيسها مركزا للثقافة وبيع الكتب، ولم تفقد هذا الطابع علي الرغم من تغير العصور والدول، ومع النهضة الحديثة في عصر محمد علي باشا، بدأت فنون الطباعة الحديثة تدخل عملية نشر الكتب التي كانت حتي قرب منتصف القرن التاسع عشر تعتمد علي النسخ اليدوي، بعدها بدأت تظهر دور نشر خاصة في الظهور، وهي المهمة التي قادها شوام، لكن معظم دور الشوام اهتمت بنشر كتب التراث. ويتابع سيد: "الانتشار في عملية نشر الكتب الأدبية استتبع ظهور دور نشر حديثة كانت في مقدمتها مكتبة مصر التي تولت نشر كتب جل أدباء مصر، لكن مع الوقت بدأت ذائقة القارئ في التغير، في ظل ظروف سياسية واقتصادية، جعلت عملية الانكباب علي شراء الكتب تتراجع، وهو ما أثر علي بعض المكتبات التي بدأت في التراجع، فالقارئ في الوقت الحالي تغيرت ميوله وأمزجته في القراءة، وهو ما نجحت في تلبيته المكتبات الجديدة". ويقول حلمي النمنم، الكاتب الصحفي ونائب رئيس الهيئة العامة للكتاب سابقاً، ل"آخر ساعة" إن الوضع في القاهرة الثقافية لم يتغير، فظلت كما هي مركز نشر الكتب، وتراجع بعض المكتبات يأتي في إطار تغير عوامل بيع الكتب، فأحياناً تتقدم مكتبات وتشهد طفرة في مبيعات الكتب، وفي لحظات تشهد تراجعاً وانخفاضاً في مبيعات الكتب، لكنها تظل في المشهد الثقافي الذي اكتسب زخماً جديداً بافتتاح عدة مكتبات في منطقة "وسط البلد".