الصفاء النفسي، هو الشعور الأبرز الذي يلازم كل من يحط الرحال علي أرض مسقط، عاصمة سلطنة عمان، الدولة العربية التي تحتل المرتبة 59 في المؤشر العالمي للبلدان الأكبر سلمية، والمرتبة 64 بين أكبر اقتصادات العالم، والمرتبة 23 في احتياطيات النفط العالمي. كل شيء هاديء في هذه المدينة العريقة والجميلة المطلة علي خليج عمان في أقصي الجنوب الشرقي من الوطن العربي، اللون الأبيض يكسو المباني، ومعظمها عدا قلب المدينة لايزيد ارتفاعه علي طابقين أو ثلاثة.. بينما الحدائق تمتد في أرجاء المدينة مزدانة بالنخيل والزهور، وتلتقي زرقة مياه خليج عمان عند ساحل المدينة مع زرقة سماء صافية في هذا الوقت من الشتاء مع جو صحي معتدل، يميل قليلاً إلي البرودة، عكس الحال في الصيف الذي تميزه الحرارة مع الجفاف. 2100 كيلو متر هي طول ساحل السلطنة العربية علي خليج عمان وبحر العرب، وعلي الجانب الآخر من الساحل، تطل إيران وباكستان والهند كأقرب دول جنوب وغرب آسيا إلي العالم العربي عن طريق عمان. الهدوء الذي يميز الحياة في سلطنة عمان، انطبع علي سياستها الخارجية، وعلي أسلوب الحكم في البلاد، مثلما ينطبع علي وجوه الناس وسلوكياتهم في الشارع ومع الآخرين. وكثيرا ما كنت أتساءل عن سر الرابطة التي تجمع المصريين الذين عاشوا في عمان بهذا البلد وأهله، مهما مضت السنون علي عودتهم إلي وطنهم الأم، ولقد لمست السبب سريعاً بعد وصولي إلي مسقط، في أول زيارة لي إلي سلطنة عمان. إنه الألفة مع المكان والبشر. وإنه أيضا المحبة الغامرة لمصر التي تلمسها من أبسط مواطن عماني إلي السلطان قابوس قائد النهضة العمانية، والتقدير البالغ لدور المصريين في عمان بالذات في مجال التعليم، والإكبار لمكانة مصر في عالمها العربي، في الثقافة والفنون، قبل السياسة المساندة لقضايا الأمة. ربما لهذه المحبة وذلك التقدير، بجانب رصانة السياسة الخارجية العمانية، كانت سلطنة عمان هي الدولة العربية الوحيدة التي خالفت مقررات قمة بغداد العربية منذ 40 عاما مضت، ورفضت أن تنصاع للآخرين وتقطع علاقتها بمصر في أعقاب توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وظلت تحتفظ بعلاقات المودة والتعاون مع مصر دون انقطاع أو فتور. ويبقي هذا الموقف علي مر الأيام في ذاكرة المصريين، موضع إعزاز وعرفان، ومحل تقدير واحترام لشعب عمان الشقيق وقائدها الحكيم. • ثلاثة أيام أمضاها الرئيس عبدالفتاح السيسي بمسقط في أول زيارة له، وأول زيارة لرئيس مصري منذ 9 سنوات إلي السلطنة. مظاهر الحفاوة والترحاب أحاطت بالرئيس السيسي منذ لحظة وصوله إلي مطار مسقط، وحتي أوان المغادرة ظهر أمس. استقبال أسطوري بمعني الكلمة، كان في انتظار الرئيس السيسي في مسقط عصر السبت الماضي، لعله غير مسبوق لأي حاكم علي أرض أي دولة يحل ضيفاً علي أرضها. علي مسافة 5 كيلو مترات، من بوابة مسقط إلي »قصر العلم» مقر الحكم في سلطنة عمان، مضي ركب الرئيس السيسي الذي اصطحبه السلطان قابوس في سيارته، محاطاً بحرس الشرف من الفرسان يستقلون الجياد، في مشهد مهيب يعكس مكانة مصر وقائدها في قلوب العمانيين وقائدهم. ومنذ ساعات العصر، إلي ساعات الليل، استمر لقاء الرئيس السيسي والسلطان قابوس، في جلسة مباحثات ثنائية، ثم جلسة موسعة، ثم علي مأدبة عشاء رسمي أقامها سلطان عمان تكريماً للرئيس والوفد المرافق له، الذي ضم وزير الخارجية سامح شكري واللواء مصطفي شريف رئيس ديوان رئيس الجمهورية والمهندس طارق قابيل وزير التجارة والصناعة والدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط واللواء عباس كامل مدير مكتب رئيس الجمهورية والقائم بأعمال مدير المخابرات العامة والسفير بسام راضي المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، بجانب السفير محمد غنيم سفير مصر في سلطنة عمان. واستكملت مباحثات القمة المصرية العمانية مساء أمس الأول علي عشاء خاص أقامه السلطان قابوس في منزله بقصر البركة، تعبيراً عن الحفاوة بالرئيس السيسي. وسبق العشاء، لقاء بين الرئيس السيسي في مقر إقامته بقصر العلم مع فهد بن محمود نائب رئيس الوزراء العماني لشئون مجلس الوزراء الذي يترأسه السلطان قابوس. برغم أن القمة المصرية العمانية، كانت هي اللقاء الأول بين الرئيس السيسي والسلطان قابوس، فقد بدا، علي حد قول مسئول عماني رفيع المستوي، وكأن الزعيمين يعرفان بعضهما البعض من سنين طويلة. كان التفاهم واضحا، وكان توافق الرؤي ظاهراً. أبدي السلطان قابوس تقديره الكامل لمصر، قائلاً إنها الدعامة الرئيسية لأمن واستقرار الوطن العربي ودول الخليج، واستفاض في التعبير عن قدر المكانة التي تحتلها مصر في قلوب العمانيين، والتاريخ الطويل من المودة التي تجمع الشعبين والتعاون الذي يربط البلدين. وعبر الرئيس السيسي عن تقدير مصر للمواقف التي اتخذتها سلطنة عمان تجاه مصر وشعبها، منوهاً بالمكانة التي يحتلها السلطان في قلوب المصريين إزاء هذه المواقف، وأبدي تطلعه نحو تعزيز علاقات التعاون بين البلدين والانطلاق بها إلي آفاق أرحب. ولأنه كان اللقاء الأول بين الزعيمين، فقد عرض الرئيس تطورات ما جري علي أرض مصر منذ ثورة 25 يناير وحتي الآن، وتناول التحديات التي واجهتها الدولة، وما شهدته البلاد من اضطرابات، حتي قامت ثورة 30 يونيو التي حافظت علي هوية الدولة الوطنية المصرية، ثم الانطلاق إلي طريق التنمية الشاملة في كل ربوع مصر. وقال الرئيس السيسي للسلطان قابوس: إن البطل الحقيقي هو شعب مصر العظيم، فكل ذلك ما كان ليحدث لولا وعي وصبر أبناء الشعب. لم يكن ما عرضه الرئيس غريباً ولا جديداً علي مسامع السلطان قابوس الذي كان يتابع يومياً كل تلك التطورات، بقلب العاشق لمصر، وبعقل المهموم بقضايا الأمة والعارف بالدور المصري فيها. ولعل العبارة الموجزة البليغة لعميد الدبلوماسية العربية يوسف بن علوي وزير الشئون الخارجية العماني تعكس بدقة تقدير عمان لثورة 30 يونيو ونتائجها، حين قال: لولا نجاة مصر من مخطط »الفوضي الخلاقة»، لضاعت الأمة العربية. ملفان رئيسيان كانا علي طاولة مباحثات القمة بين الرئيس السيسي والسلطان قابوس علي مدي يومين. الملف الأول هو علاقات التعاون الاقتصادي بين البلدين، وكان هناك اتفاق بين الزعيمين علي أن هذه العلاقات، لا ترقي إلي مستوي العلاقات السياسية بين البلدين، وأن هناك رغبة متبادلة في تعزيزها لاسيما في مضاعفة التبادل التجاري الذي لا يتعدي 300 مليون دولار طبقاً لمؤشرات العام الماضي، والتوسع في حجم الاستثمارات العمانية بمصر والتي لا تزيد علي 77 مليون دولار، وكذلك الاستثمارات المصرية في عمان التي تبلغ 30 مليون دولار. وأبدي السلطان قابوس تشجيعه للمستثمرين العمانيين علي الاستثمار في مصر. وكان موضوع الاستثمار، أحد الموضوعات الرئيسية في لقاء الرئيس مع نائب رئيس الوزراء العماني الذي أشاد بخطوات الإصلاح الاقتصادي التي اتخذتها الحكومة المصرية، واتفق مع الرئيس علي دراسة إنشاء صندوق استثماري مشترك بين الجانبين. أما الملف الثاني فهو الأزمات العربية، في سوريا والعراق وليبيا، وجري التركيز علي الأزمة اليمنية، واستمع الرئيس إلي رؤية السلطان قابوس تجاه الأزمة في اليمن وسبل العمل علي حلها. كان التوافق تاماً بين الزعيمين علي أمرين، أولهما هو الحفاظ علي كيانات ومؤسسات تلك الدول بما يحمي وحدتها ويصون مقدرات شعوبها، وثانيهما أن المنطقة فيها ما تنوء به شعوبها من أزمات وصراعات، وينبغي احتواء ما يمكن أن يقودها إلي نزاعات جديدة مريرة. وبدا خلال المباحثات ما تعلقه سلطنة عمان علي الدور المصري في ايجاد حلول لهذه الأزمات، خاصة أن البلدين لم يكونا سبباً ولا طرفاً متداخلاً في حدوثها. وقبيل مغادرته مسقط أمس.. التقي الرئيس السيسي في مقر إقامته بقصر »العلم»، نحو 40 من كبار المستثمرين العمانيين. وفي هذا اللقاء.. قدم المهندس طارق قابيل وزير التجارة والصناعة عرضاً مفصلاً للدور الذي يمكن لمجتمع الأعمال في البلدين القيام به لبدء مرحلة جديدة في العلاقات الاستراتيجية بين مصر وعمان وتحقيق نقلة نوعية في مسار التعاون المشترك. وقال إن مصر تتطلع لأن تكون قاعدة للاستثمارات العمانية في أفريقيا، لإنتاج عديد من السلع يتم تصديرها لأسواق القارة والأسواق العربية وغيرها، بالاستفادة من الاتفاقات التفضيلية التي وقعتها مصر. وتناول الوزير مشروعات البنية الأساسية في مجالات الطرق والطاقة والموانئ والمدن الجديدة، وكذلك انشاء عشرات المناطق الصناعية، بجانب المنطقة الاقتصادية الحرة لقناة السويس، كما قدم الوزير عرضاً لبرنامج الاصلاح الاقتصادي والتشريعات الجديدة التي صدرت لتشجيع الاستثمار، وقال إن ذلك أدي إلي تحسن المؤشرات الاقتصادية، فانخفض عجز الموازنة إلي 9٫5٪ ومعدل البطالة إلي 11٫9٪، والواردات بنسبة 20٪، وزاد معدل نمو الناتج المحلي إلي 4٫9٪. وأشار الوزير إلي إطلاق خريطة للاستثمار الصناعي تتيح أكثر من 4800 فرصة استثمارية وفق دراسات جدوي مبنية علي احتياجات المحافظات. واستمع المستثمرون العمانيون إلي الرئيس السيسي الذي أبدي استعداده الشخصي لإزالة أي عقبة يواجهها أي مستثمر، مشيرا إلي المزايا الكبيرة التي تتيحها التشريعات الجديدة للاستثمار علي أرض مصر. نجاح زيارة الرئيس السيسي لمسقط ومباحثاته مع السلطان قابوس، تظهر نتائجها خلال الأسابيع القادمة، بانعقاد اللجنة المشتركة بين البلدين التي تضم وزيري الخارجية وعددا من الوزراء لتفعيل الاتفاقات الموقعة بين البلدين وعلي رأسها اتفاقية منع الازدواج الضريبي، ودراسة توقيع اتفاقات جديدة لتعزيز التعاون، وكذلك عقد مؤتمر اقتصادي في مسقط لرجال الأعمال في البلدين لتشجيع التعاون في مجالات التبادل التجاري والاستثمار. ويبقي التشاور مستمراً والتنسيق السياسي متواصلاً في الفترة المقبلة بين قائد مصر وحكيم عمان إزاء الملفات العربية الساخنة، وبالأخص القضية الفلسطينية التي يعتبرها الزعيمان مفتاح الحل لإقرار الأمن واستتباب الاستقرار في هذه المنطقة المضطربة.