كل مطلب سياسى له من يؤيده وله من يعارضه. وبهذا المنطق مارست، كما آخرون، حقى السياسى فى معارضة مطالب اعتصام العباسية. لكن هل يمكن أن نتفق على شىء واحد، واحد فقط، أن لا نقبل أبدا الاعتداء على متظاهرين أو معتصمين سلميين؟ هل يمكن هذا؟ الاختلاف فى السياسة وارد جدا وصحى جدا، لكن يجب أن لا يصل أبدا إلى درجة «استحلال» الأذى الجسدى لمن تختلفين معه. أو الإيحاء، مجرد الإيحاء، أن معتصما سلميا «يستاهل» ما حدث له. يقولون لك إن الاعتصام يرفع مطالب مخالِفة للقانون، ويقولون لك إن أهل العباسية متضررون جدا من هذا الاعتصام لأنه يقطع شوارع رئيسية. فى اعتصام كهذا قد تتفقين مع كلتا الحجتين، لكن السؤال الذى يجب أن لا تحيدى عنه: هل يبرر هذا إراقة الدماء؟ هل يبرر هذا قتل المعتصمين؟ والإجابة القطعية ممن لديه حد أدنى من الإنسانية: لا. بمجرد أن استخدمت السلطة البلطجية تحولت القضية إلى اتجاه آخر تماما، ضد السلطة الفاشلة التى استخفّت بأرواح الناس واستسهلت اللجوء إلى القتل بدل تدريب أفرادها على كيفية التعامل مع التظاهرات بأقل قدر ممكن من الخسائر. هذا مربط الفرس فى سلوك السلطة. هل فلسفتها قائمة على تجنب إراقة الدماء؟ أم أن هذا الأمر لا يعنيها؟ السلطة التى ترسل بلطجية سلطة تعلن فى ميكروفون مثبَّت إلى جوار آذاننا أنها لا تبالى بمن يُقتل، وأنها تعطى القاتل حصانة من الملاحقة. مانشيتات وسائل الإعلام تقول فى الصباح «قتلى فى مواجهات بين معتصمى العباسية ومجهولين». مجهولون؟! ماذا نقصد بمجهولين؟ هؤلاء أناس يعتدون فى وضح النهار على معتصمين. لا يكلفون أنفسهم التخفى تحت ستار الظلام، ولا حتى القنص من مكان خفى. هؤلاء المجهولون هم نفس «مجهولى» موقعة الجمل. والسلطة التى أرسلتهم فى أكثر من مناسبة هى نفس السلطة التى أرسلت بلطجية «موقعة الجمل». لو لم نرَ فى مختلف دول العالم كيف يتم التعامل مع التظاهرات والاعتصامات لربما اقتنعنا بما تحاول السلطة هنا أن تقنعنا به من أن «القتل» والعنف المفرط الوسيلة الوحيدة لفض معتصمين. لكننا رأينا أحداث لندن التى -على خلاف اعتصام العباسية- لم يكن المتظاهرون فيها سلميين. إن وسائل إعلامنا السلطوية ضربت بتلك الأحداث المثل على كيفية التعامل «القاسى» مع المظاهرات. وأحب هنا أن أوضح فرقا جوهريا لمن تسعى إلى معرفة الحقيقة دون لىّ لعنقها. مظاهرات لندن لم تكن مظاهرات سلمية، بل لم تبدأ سلمية وتحولت إلى العنف، إنما كانت مظاهرات عنيفة بدأت بإحراق محلات والاعتداء على ممتلكات. لدرجة أن أربعة من خمسة قُتلوا فى المظاهرات فى لندن قُتلوا على أيدى «المتظاهرين» المخربين لا على يد الشرطة. وهذا يعنى أن السلطة تعاملت معها بكل ما تملك من حزم مقترن بضبط النفس. كما أنها تعاملت معها بجهاز الشرطة الرسمى، ذى الهيكل المعروف، الذى يمكن محاسبته على أفعاله. ولم تأتِ بميليشيات البلطجية لكى تتخفى وراءها. إن عدد المجندين وقوات الأمن المركزى فى مصر رهيب. وحتى لو قررت السلطة فض الاعتصام بالقوة تستطيع أن تحسم ذلك دون إراقة دماء بالنزول بتشكيلات ضخمة تجبر المعتصمين على التراجع. إنما أعود إلى النقظة الجوهرية التى أشرت إليها سابقا: المشكلة الأساسية أن هذه السلطة العسكرية لا تبالى بحياة الناس. قبل اعتداء بلطجية السلطة على الاعتصام كنا نُهِيب بالمعتصمين «أن لا يذهبوا إلى هناك» كحق أصيل فى ممارسة الاختلاف السياسى، إنما بعد الاعتداء على المعتصمين وإسالة الدماء فإن جملة «إيه اللى وداهم هناك؟» مشاركة فى الجريمة. فليس الضحية مسؤولا عن قتله. بعد أن تهدأ الأمور، لا بد من الحساب. لكننا هذه المرة نطالب بمحاسبة «سياسية» لحازم أبو إسماعيل أيضا. يجب أن يسأله الشباب «المخلص النية» الذى استجاب لدعوته وذهب إلى العباسية: أين كنت؟ بقيت نقطة واحدة. يقال إن الاعتصام خزن أسلحة. بصراحة، ليس هناك ما يدعونى إلى تصديق هذا أو تكذيبه. لكن ما أستطيع الجزم به هو أن نفس الأقاويل قيلت عن كل اعتصام من قبل. بينما لم نرَ أيا من هذا السلاح «المزعوم» يُستخدم من قِبَل المعتصمين.