يجلس الباشا والخواجة وبينهما فرمان حفر قناة تصل البحر المتوسط بالأحمر، يتعهد الباشا فى الفرمان بتقديم الأرض والعمال وحصة ملكية للخواجة الذى لا يقدم للباشا سوى الإشراف على تنفيذ القناة، يوقع الباشا الفرمان وينفذ الخواجة فيجرى العمل على قدم وساق، ومع انتهائه تبدأ القناة عملها باستقبال السفن من كل الدنيا، وتكريماً للخواجة، يقام له تمثال يرتفع على مدخل القناة، فيصبح وكأن ديليسبس يراقب السفن فى دخولها وخروجها، وتكريماً للباشا يطلق اسمه على المدينة التى سكنها العمال وقت حفر القناة فتصبح «بورسعيد» أو «ميناء سعيد» طبقاً للتسمية الأجنبية، أما التمثال فقد حطمه أهل المدينة مع العدوان الثلاثى على مصر نكاية فى فرنسا التى شاركت فى العدوان، والتى ينتسب إليها الخواجة ديليسبس، وأما المدينة فقد ظلت كما هى، بنفس التسمية التى ألصقت بها اسم الوالى سعيد حتى يرث الله الأرض ومن عليها. من بورسعيد، تبدأ قناة السويس وتنتهى، كما يبدأ كل شىء وينتهى، من هناك يبدأ هجوم إنجلتراوفرنسا وإسرائيل على مصر فيما سيعرف لاحقاً فى أدبيات التاريخ الحديث ب«العدوان الثلاثى على مصر»، وهناك أيضاً سينتهى على أيادى أهالى المدينة الذين تصدوا له بمفردهم، من هناك سوف يبدأ عصر الانفتاح الاقتصادى على العالم كسياسة أقرها الرئيس السادات عقب إعلان بورسعيد منطقة تجارة حرة بعد خروج مصر منتصرة من حرب أكتوبر 1973، ومن هناك أيضاً سوف تنتهى التجارة الحرة بعد أن يصدر الرئيس مبارك قراراً بإلغاء المنطقة الحرة فى أعقاب محاولة اعتداء جرت له على يد أحد أبناء المدينة أثناء زيارة قام بها هناك. لا يبدو أن المدينة تتأثر بذلك كثيراً، ربما لأنها اعتادت على ذلك طوال تاريخها، ترتبك قليلاً ثم تعود للوقوف بثبات يبهر الآخرين، فيما تستمر الحياة فى أحيائها، ما بين «الشرق» و«المناخ» و«العرب» و«بورفؤاد» و«الضواحى» و«الجنوب» و«الزهور»، لا يجدّ عليها جديد، نفس الشوارع بنفس الوجوه التى تطل من شرفات المنازل العتيقة المبنية على الطرز الأوروبية، نفس السفن التى تقطع قناة السويس على مقربة من مبنى مينائها الشهير، نفس المعديات التى تعبر فيما بين المدينة وحى بورفؤاد، نفس طيور النورس التى تحوم فوق البحر، نفس الأغانى التى يرددها فنانوها على السمسمية وهم يرقصون رقصات البمبوطية، نفس الوفود التى اعتادت أن تهبط على أسواق المدينة لتشترى منها الملابس المستوردة القادمة من بلاد برة بأقل الأسعار، نفس مطاعم الأسماك، والوجبات الخفيفة، وسيارات الملاكى التى تحمل خاتم «جمرك بورسعيد». هكذا تبدو المدينة، تفاصيل قد تبدو صغيرة؛ لكنها تشكل تاريخاً يستمر طالما ظلت بورسعيد فى مكانها، مفتاح مصر، وصمام أمانها، وجزءاً لا يتجزأ من تراب الوطن.