انتهت سطور الأمس بسؤال: كيف استمرت بعد الثورة ظاهرة الهجرة والهروب من الوطن متفشية فى أوساط المصريين عموما، والمواطنين المسيحيين خصوصا؟ ولماذا تآكلت بسرعة ملامح المشهد الرائع الذى صنعته الملايين وسكنت فيه طوال 18 يوما مجيدة، بدا فيها شعب مصر وقد استعاد نفسه وانتشل من تحت الركام سمات رقيِّه وتحضره وجوهر ثقافته السمحة الأصلية، حتى ظن أكثر الناس (ومنهم العبد لله) أن ثقافة البغض والكراهية الطائفية دفنت وانتهت إلى الأبد...؟! أجاوب اليوم بادئا بالشطر الأول من السؤال، أى: لماذا عادت حُمَّى الهروب من البلد؟ السبب واضح، فلا شىء فى العمق أو على سطح حياتنا تغير، بل ربما كانت كل بشائر التغيير تشى بأننا قد نذهب قريبا إلى ما هو أسوأ من الأوضاع البائسة القديمة بعدما تواطأ على البلاد والعباد قوتان غشومتان فرضتا مسارا سياسيا مشوها ومعوجا بدد الزخم الثورى، وأنهك الناس وأنتج جرائم وكوارث لا أول لها ولا آخر، ثم فى النهاية نقلنا من حكم ديكتاتورى فاسد إلى حكم يحافظ على السمات والسياسات الرديئة نفسها، وإن تدثر بثرثرات ورطان فارغ بشعارات الثورة بينما هو لا يقصر فى العمل بعكسها تماما، كل يوم وعلى كل الأصعدة ابتداء من شعار «الحرية» التى تتوجس منها «الجماعة» التى ورثتنا من مبارك وتكرهها كراهية عقائدية شديدة، وانتهاء بالعدالة الاجتماعية التى نسمعهم يغنون لها فحسب (كما كان يغنى ابن المخلوع للفقر والفقراء) لكنهم عمليا لا يعرفون من وسائل تحقيقها إلا «اقتصاد الصدقة» الذى يبشروننا به، حيث يتفضل الأغنياء المترفون بالإحسان على الفقراء البائسين بفتات تافه من المال الذى ينزحونه ويكتنزونه فى كروشهم الواسعة.. ثم كان الله بالسر عليما. فى ظل حال كهذه تبدو فيها الثورة وكأنها سُرِقت من أصحابها وسُحقت أهدافها واستقرت غنائمها فى يد من لا يستحق، طبيعى جدا أن يستفحل اليأس ويتسرب القنوط والإحباط إلى نفوسٍ داعبها أمل حلو بأننا على وشك بناء وطن جديد ناهض، ينعم أهله بالحرية والعدالة والمساواة، ومن ثم ليس غريبا أن تعود مسيرة الهجرة من الوطن إلى سابق عهدها، بعدما أصبح الهروب هو سبيل النجاة الوحيد. أظن أن السطور السابقة فيها إجابة جزء كبير من الشطر الثانى والأخطر من سؤال أمس، فقط يتبقى أن أشير إلى حقائق ساطعة تصفع عيوننا وتطل علينا من ثنايا المنظر السياسى البائس الحالى المصبوغ بلون جماعات تمتهن الدين الحنيف وتلبس أرديته وتتوسل بشعاراته سلاحا للقفز على السلطة واستخدام قوتها الفادحة فى فرض أفكار مظلمة وهواجس عقلية تخاصم الزمن وتتنكر لأغلب قيم ومنجزات مسيرة التحضر الإنسانى بما فيها مبادئ الإسلام نفسه. وقد لا يكتفى البعض بإبداء الأسى والحزن على تفاقم والتهاب مشاعر التهميش والغربة التى يحس بها أهل هذا البلد من المواطنين المسيحيين، وإنما يزيدون نوعا من الاستنكار واللوم لهؤلاء المواطنين على اندفاعهم غير المسبوق نحو الخروج من ديارهم والهجرة من وطنهم.. فإلى من يلوم الضحايا ويسكت عن الجناة أوجِّه نداء الضمير لكل مواطن مسلم، راجيا أن يضع نفسه فى موضع أخيه المسيحى ويرى بعين الإنصاف كيف هيمن نفاق «التديين» الشكلى منزوع التقوى على كل مشاهد الحياة فى المجتمع، وكيف أضحت صورة أعضاء السلطة العليا، من رئيس الدولة إلى باقى عماله ومحافظيه، وكأنهم جميعا وعاظا وخدما فى زوايا ريفية أو مساجد ضِرار من ذلك النوع الذى ينتصب بغير جمال ولا جلال ويسد على خلق الله الطرقات فى أحياء تئنُّ من الفقر والعشوائية! أخى المسلم انظر حولك أرجوك، وقل لى بالله عليك: ماذا كنت ستشعر لو أنك مواطن مسيحى يعيش فى بلد يجهر بعض من صعدوا إلى سدة الحكم فيه بأن مجرد تهنئة مواطنيهم المسيحيين بعيد القيامة المجيد معصية ترقى إلى مستوى الشِّرك والعياذ بالله؟!