حين نطالع كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبدالرازق، بعد ثمانية وثمانين عاماً، نجد أنه صالح للقراءة والاستفادة منه فى أيامنا تلك، فهو ابن المعركة الفكرية التى دارت رحاها فى مصر عقب إلغاء مصطفى كمال أتاتورك ل«الخلافة الإسلامية» سنة 1924. أيامها حمل الأزهر بشدة على أتاتورك، ودعا إلى عقد مؤتمر لبحث هذه المسألة، وتعالت أصوات تنادى بأن يكون «الملك فؤاد» خليفة للمسلمين. وفى المقابل كان هناك تيار سياسى يهاجم الخلافة، ويتمنى ألا تعود أبداً، يقف على رأسه «حزب الأحرار الدستوريين»، الذى كان أفراد من أسرة عبدالرازق يقفون فى طليعته، ولذا أهدى المؤلف نسخة من كتابه إلى صديقه الدكتور محمد حسين هيكل، رئيس تحرير جريدة «السياسة» لسان حال هذا الحزب، التى لعبت دوراً كبيراً فى الترويج للكتاب، وفى الدفاع عن مضمونه، وعن مؤلفه. لكن هناك من يشكك فى هذا السياق المألوف، ويحيل فترة تأليف الكتاب إلى أيام الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) وفى مطلع هؤلاء الدكتور محمد ضياء الدين الريس، الذى كرس جل جهده الوافر لترسيخ أركان «النظرية السياسية للإسلام». ففى كتابه «الإسلام والخلافة فى العصر الحديث: نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم» ذهب الريس إلى أن كتاب على عبدالرازق قد تم تأليفه على ما يبدو بين سنتى 1915 و1917، كما نص المؤلف نفسه على ذلك فى المقدمة، وهى مسألة تدل عليها وتسندها إشارة المتن إلى الخليفة العثمانى محمد الخامس، الذى انتهى حكمه فى السنة التى انتهت فيها الحرب الأولى. لكن عبدالرازق نفسه لم ينفِ هذا، وذكر بوضوح وجلاء ما يدل على أن تأليف كتابه هذا استغرق منه سنوات. فها هو يقول فى المقدمة: «شرعت فى بحث ذلك كله منذ بضع سنين. ولا أزال بعد عند مراحل البحث الأولى. ولم أظفر بعد الجهد إلا بهذه الورقات، أقدمها على استحياء إلى من يعنيهم الموضوع». ثم يقول أيضاً فى المقدمة ذاتها: «تلك الورقات هى ثمرة عمل بذلت له أقصى ما أملك من جهد، وأنفقت فيه سنين كثيرة العدد، كانت سنين متواصلة الشدائد، متعاقبة الشواغل، مشوبة بأنواع الهم، مترعة كأسها بالألم، أستطيع العمل فيها يوماً، ثم تصرفنى الحوادث أياماً، وأعود إليه شهراً ثم أنقطع أعواماً». وقد حاول الريس أن يقطع الطريق على مؤلف «الإسلام وأصول الحكم» ويهز الدعامة التى اتخذها مناصروه اللاحقون سنداً لهم، وهى تلك التى تعتبر الكتاب أطروحة شجاعة فى وجه الملك فؤاد، الذى لم يكن أهلاً لحمل لواء الخلافة بعد سقوطها. فالريس يرى أن فؤاد لم يظهر أى رغبة فى الخلافة، بل إنه كتب ذات مرة إلى سعد زغلول يقول: «كيف أقوم بالواجب نحو جميع المسلمين، مع أن حملى ثقيل بالنسبة لمصر وحدها؟»، كما أن الملك كان قريباً من «الأحرار الدستوريين» الذى باركوا ما فعله أتاتورك. أكثر من ذلك يستشهد الريس بما كتبه عبدالرازق نفسه مادحاً فؤاد، ونافياً أن يكون قد قصده بأى سوء، فها هو ينشر فى جريدة «السياسة»: «ملك مصر أعز الله دولته هو أول ملك عرفه الإسلام فى مصر ملكاً دستورياً ينصر العلم والعلماء ويؤيد فى بلده مبادئ الحرية». لكن مصادر عديدة أجمعت على عكس ما ذهب إليه الريس، وقدمت دلائل دامغة على أن فؤاد كان يطمع فى أن يكون خليفة للمسلمين بعد سقوط الخلافة العثمانية. (ونكمل غداً)