على المستوى الشخصى أنا مدين مثل كثير من أبناء جيلى للروائى العالمى الكبير جابرئيل جارسيا ماركيز بالكثير من لحظات البهجة والاستمتاع العقلى والفكرى والتحليق فى عوالم خيالية. عندما فاز ماركيز بجائزة نوبل للأدب عام 1982 كنت قد انهيت دارستى الثانوية وأذكر أننى قرات رائعته «مائة عام من العزلة» مترجمة عن دار الهلال للمتميز سليمان العطار قبل أن اقرأ الترجمة المتميزة أيضا لصالح علمانى عن دار المدى. الرواية صدرت عام 1967 لكننا معظم العرب لم نعرف عنها وربما عن الكاتب إلا بعد فوزه بالجائزة العالمية. وبعدها بدأنا نتابع بعض جواهر ودرر ماركيز، مثل الحب فى زمن الكوليرا والجنرال فى متاهته وخريف البطريرك ووقائع موت معلن. فى التسعينيات كتب ماركيز كاشفا عن انه وقبل فوزه بنوبل ذهب إلى دار نشر كى تنشر له رواية عنوانها «البحار الذى تحطمت سفينته» فرفضها الناشر على الفور باعتبارها تافهة وضحلة وبلا خيال. وبعد فوزه ذهب إلى نفس الناشر عارضا عليه نفس المخطوطة فقبلها على الفور مشيدا بالموهبة الاستثنائية للكاتب! ماركيز الكولومبى الأصل مات أمس الأول الخميس عن 87 عاما قضى آخر ثلاثين عاما منها فى المكسيك، وترجمت أعماله إلى ثلاثين لغة وتم بيع ثلاثين مليون نسخة من روايته مائة عام من العزلة. ماركيز يمكن تصنيفه باعتباره ليبراليا كما يمكن وصفه باليسارى وعاش لفترة فى باريس هاربا من القمع فى بلاده وفى المنطقة. كان منحازا للفقراء وكان صديقا للزعيم الكوبى الكبير فيدل كاسترو. بعض النقاد يرونه أهم روائى على مر التاريخ، ويرون «مائة عام من العزلة» اهم رواية على الإطلاق. نثره العادى لا يقل روعة عن بنائه الروائى المحكم، دليل ذلك كتابه الرائع او سيرته الذاتية «أن أعيش لأحكى». قبل شهور قرأت فقرة من كتاب لماركيز لم أستطع نسيانها حتى الآن. الفقرة ليست فقط شاعرية وبديعة بلاغيا أو محكمة فنيا لكنها مغرقة فى الفلسفة وخلاصة الحكمة البشرية، وقبل ذلك وبعده إنسانية. لنستمتع الآن بقراءة هذة الفقرة على لسان ماركيز: «لو كنت أعرف أنها المرة الأخيرة التى أراك فيها نائمة، لضممتك بقوة بين ذراعى قبل شهور، ولتضرعت إلى الله أن يجعلنى حارسا لروحك. لو كنت أعرف أنها الدقائق الأخيرة التى أراك فيها، لقلت «أحبك»، ولتجاهلت بخجل أنك تعرفين ذلك. «هناك دوما غدا، والحياة تمنحنا الفرصة لنفعل الأفضل، لكن لو أنى مخطئ وهذا هو يومى الأخير، أحب أن أقول كم أحبك، وأننى لن أنساك أبدا. لأن الغد ليس مضمونا، لا للشاب ولا للعجوز. ربما تكون فى هذا اليوم المرة الأخيرة التى ترى فيها أولئك الذين تحبهم. فلا تنتظر أكثر، تصرف اليوم لأن الغد قد لا يأتى، ولابد أن تندم على اليوم الذى لم تجد فيه الوقت من أجل ابتسامة أو عناق أو قبلة أو أنك كنت مشغولا كى ترسل لهم أمنية أخيرة. حافظ بقربك على من تحب، اهمس فى أذنهم بأنك بحاجة إليهم، أحببهم واهتم بهم، وخذ ما يكفى من الوقت لتقول لهم عبارات مثل: أفهمك، سامحنى، من فضلك، شكرا، وكل كلمات الحب التى تعرفها. لن يتذكرك أحد من أجل ماتضمر من أفكار، فأطلب من الله القوة والحكمة للتعبير عنها. وبرهن لأصدقائك ولأحبائك كم هم مهمون لديك».