أصبح التباين والاختلاف هو سمة الموقف في المشهد السوري الآن، ففي الوقت الذي أكد فيه الأخضر الإبراهيمي موافقة سوريا على وقف إطلاق النار خلال عيد الأضحى، أكدت الخارجية السورية أن القرار النهائي بخصوص الهدنة سيصدر، الخميس 25 أكتوبر. وأنه ما زال طرح وقف العمليات العسكرية خلال عطلة العيد قيد الدراسة من قبل القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة. وقد جاءت مباحثات الأمين العام للجامعة العربية د.نبيل العربي مع المبعوث الأممي العربي المشترك الأخضر الإبراهيمي، لاستعراض نتائج جهوده لحل الأزمة السورية متزامنة مع اجتماع لجنة مجموعة الحكماء التي تقوم بزيارة مصر حالياً، وهي اللقاء الذي يشارك فيه العربي والإبراهيمي والرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، وهي اللجنة التي تعقد اجتماعاتها بشكل دوري للبحث في القضايا التي تهدد السلم والأمن الدوليين. كان الإبراهيمي قد طرح مبادرة "هدنة العيد" في محاولة لإحداث اختراق ولو محدود في الأزمة السورية، يكون مدخلا لإطلاق عملية سياسية في حال نجاحها، لكن بقيت المبادرة معلقة بسبب تعنت الطرفين وطرح الشروط والشروط المضادة من جانب دمشق والمعارضة المسلحة، ومع ذلك ترك الإبراهيمي الأمر للجانبين كي يتخذا الخطوات المناسبة إذا أرادا. دوليا، أكد نائب رئيس الوزراء التركي علي باباجان أن بلاده تدعم المبعوث المشترك إلى سوريا الأخضر الإبراهيمي في مساعيه لإقرار خطة وقف إطلاق النار بين الأطراف المتنازعة . كما أبدت الأممالمتحدة الاستعداد لإرسال قوات حفظ سلام في حالة الموافقة على وقف دائم وكامل لإطلاق النار، لكن الرئيس الأسد يصر على قضية وقف تسليح المعارضة السورية، فيما تتهم المعارضة كل من إيران وموسكو بتسليح النظام ودعمه وترى أن هدنة عيد الأضحى المبارك بعيدة المنال بسبب رفض النظام لكل الحلول السلمية وإصراره على الحل الأمني. ومع كل هذه الجهود الدولية والإقليمية بشأن الأزمة السورية يبدو الموقف التركي هو الأبرز على الساحة السياسية، إذ أصبح الموقف التركي أكثر تعقيداً من جهة وأكثر تخبطاً من جهة أخرى. ومرد ذلك إلى تنوع آليات وحسابات المناورة السياسية التركية، فمرة يكون التركيز على دعوة النظام السوري للحوار، ومرة يكون التركيز على دعم المعارضة السورية ، ومرة يكون على دعم الحل الأممي والتلويح بالتدخل العسكري لحل الأزمة. كما يعود هذا التنوع في الاستراتيجيات والآليات إلى الصعوبات التي واجهت أنقرة في تحقيق هدفها بإسقاط النظام السوري سريعاً عن طريق الحسم العسكري، وبدا أن خيارها وضعها أمام خيارات محدودة ومحكومة بسلوكيات وتصرفات المعارضة السورية السياسية والمسلحة. فيما بدت دمشق أمام خيارات أوسع للرد على هذا التوجه التركي، فسعت إلى جر تركيا إلى الحرب في رسالة مفادها "خسارة تركيا" إن ظنت أن الحسم العسكري على الأرض سيكون محصوراً داخل حدود سوريا، فيما صبت هجمات القاعدة التي زادت في حلب في مصلحة النظام السوري سياسيا وإن أدمته عسكريا. أمام هذا المشهد السوري المعقد والمتشابك، اتجهت أنقرة نحو فكرة قبول الحلول الوسط التي تتيح ظهور حكومة انتقالية يكون فيها من يمثل النظام والمصالح الصينية والإيرانية بل والروسية أيضا، وهو ما تجسد في اقتراح وزير الخارجية أحمد داود أوغلو أن يتولى فاروق الشرع إدارة المرحلة الانتقالية، علماً بان الشرع لم يكن يوماً من المتحمسين للتقارب السوري - التركي الذي بدأ عام 2004 ولم يكن جزءاً من أي مشروع من مشاريع التقارب والتعاون، وبقي على هواجسه المشككة في نوايا أنقرة من تقاربها مع دمشق. والآن تواجه أنقرة اختباراً جديداً مع المعارضة السورية من خلال مقترح هدنة وقف القتال خلال عيد الأضحى، فإن بدت أنقرة داعمة لهذا المقترح بقوة حيث نقلته ليكون أساس نقاش بينها وبين طهران من خلال لقاء رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان مع الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في أذربيجان، وتبعها إعلان وزير الخارجية أحمد داود أوغلو توجيه دعوة رسمية إلى جميع أطراف النزاع في سورية لوقف إطلاق النار خلال العيد، فإن تركيا تبقى في موقف لا تحسد عليه مهما كانت نتيجة تلك الدعوة ومشروع الهدنة. وفي ظل عدم الشفافية واتساع الرقعة الضبابية للمشهد السوري الآن، فإن الموقف التركي يبدو هو الآخر في حالة من الارتباك وعدم اليقين، خاصة مع عدم الوضوح التام لموقف المعارضة من هدنة العيد، ومما يزيد الأمر حرجاً أمام تركيا، أنه في حال رفضت المعارضة المسلحة هذا المقترح أو انجرت إلى رد على إطلاق نار من جانب النظام، فإن الجهود التركية ستذهب هباء وسيتأكد من جديد للسياسيين الأتراك بأنه لا يمكن الاعتماد على المعارضة السورية. وعلى رغم إدراك أنقرة هذه المحاذير إلا أنها فضلت دعم مقترح الهدنة مع يقينها بأن النظام السوري لن يلتزم وأنه قد يسعى إلى تفجير الصراع إقليمياً. وفي هذه الحالة ستكون تركيا أمام اختبار جديد من مناورات النظام السوري، الأمر الذي سيكون تجربة مهمة لتركيا التي تستعد لاستقبال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بداية ديسمبر المقبل في زيارة رسمية، ليكون اللقاء فرصة خالصة لتقريب وجهات النظر في شأن الملف السوري. على أي حال فإن الموقف التركي من تطورات الأزمة السورية مستقبلاً، سيكون أكثر وضوحاً وذلك في ضوء التنوع القبلي والمذهبي للمجتمع التركي والأقلية الكردية والعلوية على أراضيها، وكذلك في ضوء النتائج التي ستسفر عنها الانتخابات الرئاسية الأمريكية وأولويات الرئيس الأمريكي الجديد "باراك أوباما أوميت رومني" في إطار ثوابت ومتغيرات السياسة الأمريكية تجاه قضايا الشرق الأوسط وبعد أن أصبحت ظاهرة "الخروج" الاضطراري للقوي الكبرى من مناطق أو بلدان، سبق أن تدخلت فيها تلك القوي، سواء كقوة احتلال، أو حتى بموجب قرارات دولية،إحدى الظواهر المهمة في تاريخ العلاقات الدولية، باعتبارها أحد العوامل الرئيسية المحددة لأوزان القوي الكبرى في النظام الدولي، وللتحول في هيكل القوة داخل هذا النظام، أو الكاشفة عن كليهما.