كان صوتك خلال قضاء إجازتى فى البلد يأتينى عند دخولك الديوان مطمئناً، دافئاً فى عز البرد، نسيماً فى الصيف على عينى أيها الحبيب أن يأتينى خبر رحيلك عن الدنيا وأنا على بعد آلاف الأميال من الأقصر.. على عينى ألا أتمكن من الصلاة عليك وتشييعك حتى مستقرك الذى ستعبر منه إلى جنة الخلد بإذن الله، حيث لا معاناة ولا ألم، على عينى ألا أكون بجوارك فى لحظاتك الأخيرة طيلة غيبوبتك، التى تعدت المائة يوم، إذ ربما صدرت عنك تنهيدة، أو حتى آهة أطمئن بها عليك قبل وداعك.. لكن وآه من لكن هذه يا حاج أحمد، شغلتنا المشاغل، وأخذتنا الأحوال، وفارقتك وأنت على فراش الموت، حيث كانت كل الشواهد حاضرة، ومع ذلك كان الأمل يراودنى بأنك ستقوم من رقدتك فى لحظة ما، لتحكى لنا قصة غيابك التى حيرت الأطباء، حيث كانت كل أجهزة الجسد العضوية تعمل بكفاءة رغم الغيبوبة والغياب.. لذا، وعندما عرفت بسفرى إلى الولاياتالمتحدة فى رحلة عمل، كنت بدأت الاتصالات لأعرض صور أشعتك وتحاليلك على الأطباء هنا، فإذا بخبر رحيلك يسبق. لكن لا بأس يا رجل، ها أنت ستفيق من رقدتك بإذن الله على روح وريحان وجنة نعيم، ستكون بلا شك أفضل من جنة الدنيا، حيث كنت تصف حديقتنا الصغيرة التى جعلك الله سبباً فى إعادتها للحياة من جديد، لتنبت لنا عنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً.. حديقتنا يا حاج أحمد التى رويتها بقلبك وبإخلاصك وحنانك وصبرك، حتى عاد «كربال» العنب يظللها من جديد، وأطلت ثمار المانجو من فوقها بأنواعها المختلفة تحكى قصة حبك الأرض وفهمك لأسرارها وهدهدتها والطبطبة عليها، حتى أثمرت وأينعت.. كان يحلو لى أن أراقبك من بعيد وأنت تجلس القرفصاء تناغى وتلاغى ثمار زرعك، مثل أب حنون أخذ طفله بين ذراعيه، يحكى له ويسمع منه. كان صوتك خلال قضاء إجازتى فى البلد يأتينى عند دخولك الديوان مطمئناً، دافئاً فى عز البرد، نسيماً فى الصيف: «أنا وصلت ياحاج هشام».. فأسارع للبلكونة المطلة على الجنينة: «حمدلله على السلامة يا حاج، أخبار نسرين والعيال إيه؟».. فتقول مبتسماً: «بيبوسوا إيديك يا حاج هشام»، أعود للنوم من جديد، واستيقظ قبل الظهر، فتفاجئنى بالجديد الذى كنت تفعله بالجنينة كل يوم: لقد جهزت هذه المنطقة لزراعة شجر برتقال، وتلك للنعناع الأخضر الذى لا يحلو شاى الصعايدة بدونه، وهذه عينات من «الرُويّس» (أى ذريعة البصل)، تمهيداً لنثرها فى ذلك الحوض، وهذه شتلات الثوم سوف أزرعها تحت شجر «اليوستافندي»، أضحك من أعماق قلبى قائلاً: «حيلك حيلك يا رجل، كيف تتسع هذه المساحة الصغيرة لطموحك العريض؟»، فتقول واثقاً: «الموضوع بركة، وليس مساحة ياحاج هشام». نشهد يا حاج أحمد يا طاهر أنك كنت حلو المعشر، رقيق الكلام، دائم الابتسام فى وجوه كل الناس، قليل «العيبة»، لم يرتفع صوتك غاضباً، ولم نضبطك يوماً متلبساً بتكشيرة، أحبك الأهل والجيران وكل رؤسائك ومرءوسيك فى مصلحة الضرائب، منذ أن كنت موظفاً صغيراً وحتى بلغت المعاش وأنت مدير عام فيها، كنت موظفاً مثالياً مجتهداً، مشهوداً له بالكفاءة والقدرة على التعامل مع لغة الأرقام والحسابات، بنفس قدرتك على التعامل مع الأشجار والزراعة التى كنت تهواها، وجاءتك الفرصة لممارستها عندما بلغت سن المعاش، لتتفرغ لتلك الجنينة الصغيرة، تفرغ فيها طاقتك الإبداعية، لتنتج منها أحلى وأطعم الفواكه والخضراوات والورد والريحان. وها أنذا، من على كل هذا البعد، أكاد أسمع صوت نحيب أرض الجنينة التى ستفتقد حتماً يدك الحانية التى طالما حرثتها وزرعتها.. كما ستفتقدك كل الأقصر وضواحيها، الكرنك الرابض شمالها، والبياضية مدخلها الجنوبي، سنفتقدك كلنا بعد أن زرعت بداخلنا حباً عجيباً لك، وتعلقاً كبيراً بك، حيث أصبحت خلال السنوات القليلة نسبياً التى عرفناك فيها، ليس مجرد زوجاً لصغيرتنا الغالية، ولا نسيباً لعائلتنا، بل صديقاً لكل عائلات وأهالى البياضية، وهم المعروف عنهم أنهم لا يفتحون قلوبهم إلا لكل صادق مخلص فى حبه لهم.