اختار ألا يخاطر بنفسه فى سبيل أى شيء، ذلك أنه لم يكن لديه قضية أصلا سوى أن يقول «أنا هنا»! الصبى فقير وجائع ضعيف هش، زار صالة الألعاب مرات قليلة واستحدث وصفة بلدية ساذجة نفخت عضلاته وضخمت صوته الأملس فصدق أنه وحش، استتر تحت ثوب اخترع شكله بنفسه بلا ياقة وزرر قميصه حتى رقبته لئلا تبدو ندبات قديمة أيام ضعفه، وألزم الحارة كلها به وتوعد من لم يلبسه ببئس المصير، صدقه الناس وارتدوا نفس الثياب حتى الأغنياء القادرون منهم انصاعوا خوفا من بطشه إذ أقنعهم أن بيده قوة خارقة لا يوازيه فيها أحد لكنها مخبأة تحت صمت هدار يوم ينفجر ستكون قيامة الحبيب قبل العدو. الحارة مستضعفة فلما رأ أهلها الولد «قوي» كذلك صدقوه وقالوا ربما يأتى على يده الخلاص، وسار الولد على هذا النحو يزعق فى المجيء والرواح ويهدد كل قاطن أو زائر ويصرخ فى العابرين ويقمع أهالى حارته فينكمشون ويتوعد الأقوياء فى الحارات البعيدة. يلوح بكرباجه فى الهواء فيجلد الهواء وينكتم الجميع. ذاع صيت الولد وكرباجه فاجتمع علية القوم وسادته فى الحارات القوية وقرروا أن يحذروه من مغبة أفعاله وما سينتج عنها إذ أن الأقوياء يعرفون حقيقته القديمة ولن يتركوه ليهددهم كما يفعل وإلا تصير مذلة كبيرة وعار عليهم إذا سكتوا. لم ينتبه الولد لما قيل وزادت نبرته وارتفع نعيقه وتمادى فى كل ما يفعل بل وزاد عليه أن قرر ذات صباح اصطفاء مجموعة من سُذج المناطق المجاورة وأقنعهم أنهم وكلاؤه وظله وناطقون باسمه وحافظون لأختامه، ووعدهم الجنة إذا صمدوا فى وجه الأقوياء الباطشين، واستنسخ لهم من كرباجه نسخا مقلدة أكثر وهنًا وضعفًا. صدقه وكلاؤه أيضًا وساروا يرهبون فى الأرض ويتحدثون طريقته بل بلسان أكثر حدة وقسوة وبطش، وعلت تهديداتهم أكثر من الصبى نفسه مرتكنين على من منحهم صفته وقميصه وعمته وعباءته، حتى طريقته فى الإمساك بمقبض كرباجه صارت أقوى وأعنف، وسموا أنفسهم جبهات إسناد القضية الكبرى، لكن.. أى قضية! إلى أن هبت معركة مضنية -امتدت لنحو عام- بين أنصاره فى الحارات المجاورة وتكتل الأقوياء من الحارات البعيدة الذين رأوا ضرورة وضع حدٍ لهذا الصبى الغطريس. ظن الوكلاء أنهم يدافعون عن قضية بينما حاراتهم تخترق من الداخل ويتساقط بها الجرحى والقتلى كل ليلة وهم منشغلون بتسميتهم ما بين صرعى وشهداء، وهذا كان الخلاف فيما بينهم، حاراتهم تنزف وهم يتجادلون أيهم قتيل وأيهم شهيد! ولما خرجت الأمور عن سيطرة السذج الضعفاء راحوا يستنجدون بالصبى الفتى الغبى الذى وعدهم الجنة وأنهارها بينما لا أحد يرد، علا نداء الوكلاء يستنجدون به وكل الذين جندهم فى صفه وهو يتوعد من بعيد فقط. الولد ذكى جدا ويعرف كم هو فى أصله ضعيف وباهت ومخترق وأخرق فاحتجب عن الجواب أو تلبية النداء واختار ألا يخاطر بنفسه فى سبيل أى شيء، ذلك أنه لم يكن لديه قضية أصلا سوى أن يقول «أنا هنا»! زهق الأقوياء أرواح أنصاره السذج المقاتلين -واحدًا تلو الآخر- الذين صدقوا أن هناك قضية حقيقية يضحون بأرواحهم من أجلها، حتى قضية حارتهم الأصلية نسوها تحت وطأة حروب مفتعلة أقنعهم بها، ثم لما سأل من تبقى عن الصبى قيل لهم اطمئنوا هو بخير فقد احتمى بنفسه فى جحر قديم وراح يصفو لذاته ويضع خطة محكمة لتصفية الأقوياء. رحم الله كل من صدق زيف قضية الصبى ونسى قضيته الأساسية.