تشير السيرة الذاتية لرئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو أن أول وظيفة عمل بها فى مستهل حياته العملية فى ثمانينيات القرن الماضى كانت فى مجال التسويق، ويبدو أن الرجل الذى احترف العمل السياسى لعقود تالية وأصبح صاحب الرقم القياسى فى رئاسة الحكومة الإسرائيلية، قد حافظ تحت ثياب السياسى بعقلية البائع، لكنه بدلاً من أن يبيع السلع والخدمات، احترف بيع الأكاذيب!! هذا الحكم ليس تجنيًا، فمن يستمع إلى الخطاب السياسى لنتنياهو على مدى العقود الماضية يدرك أن الرجل داعية حرب بامتياز، مهما أقسم بأغلظ الأيمان أنه يريد السلام. وبينما كان نتنياهو يقف على منبر الأممالمتحدة محاولاً تسويق فكرة أن بلاده تسعى للسلام، كانت طائرات جيش الاحتلال تدك مناطق بالعاصمة اللبنانية بيروت، بحثًا عن صيد ثمين يمكن لرئيس الحكومة الأكثر تطرفًا فى تاريخ إسرائيل، أن يسوق من خلاله «انتصارًا» يتحدث عنه منذ صفعة السابع من أكتوبر، ولا يجد حرجًا فى إحراق المنطقة برمتها من أجل تحقيق ذلك النصر المزعوم. خطاب نتنياهو من على منصة الأممالمتحدة لا يوصف إلا بأنه حفنة من الأكاذيب والإهانات للأمم المتحدة ولجميع قيم القانون الدولى، فالرجل يتوعد بالحرب من فوق منصة أرادها العالم وسيلة للدفاع عن السلم والأمن الدوليين، ويكرر أنه يريد السلام، ويداه ملطختان بدماء عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء الذين راحوا ضحية أطماعه وهوسه بالسلطة، سواء قُتلوا برصاص قوات الاحتلال أو صواريخهم، أو قضوا نحبهم جراء حرب التجويع التى يخوضها بلا رحمة ضد شعب أعزل، لم يرتكب جرمًا سوى أنه يتمسك بأرضه الفلسطينية فى وجه مغتصب، شاءت ظروف النظام الدولى العاجز أن يطلق يد القتلة دون خشية من حساب أو عقاب!! ■■■ اليوم وبعدما تأكد رسميًا اغتيال الأمين العام لحزب الله اللبنانى حسن نصر الله، ربما يفرح نتنياهو قليلاً بما حقق، وقد يسوق فعلته على أنها انتصار فى حربه العبثية لإعادة بناء «جدار الخوف» الذى يتحصن من ورائه، لكن فرحته ستبقى قصيرة الأمد، وستجر على المنطقة ويلات لن يستفيد منها سوى المتطرفين، وفى مقدمتهم بالتأكيد اليمين الإسرائيلى المنقاد وراء أوهام اختلقتها آلة الدعاية الصهيونية وغذتها بتأويلات دينية. والحقيقة التى يدركها الجميع أن الجرائم الإسرائيلية، تضع الشرق الأوسط برمته أمام لحظة فارقة، فإما الانسياق وراء الجنون الذى يصنعه المتطرفون فى تل أبيب، وإما تدخل القوى الكبرى للجم ذلك الجنون، وللأسف الشديد لا يبدو الخيار الأخير - فى ظل المشهد العالمى الراهن- أمرًا محتملاً، على الأقل فى المستقبل المنظور. ووسط صخب الدعاية والأكاذيب الإسرائيلية تسقط الحقيقة كأولى الضحايا، فما تفعله إسرائيل لن يوفر لها ذلك الأمن الذى تشعل الحرائق فى جنبات المنطقة بزعم السعى لتحقيقه، ولم تفلح سياسة الاغتيالات التى اتبعتها الدولة العبرية تجاه قادة الفصائل الفلسطينية واللبنانية منذ اغتيال عباس الموسوى الأمين العام الأسبق لحزب الله عام 1992، وقبله وبعده كثيرون من قيادات تلك الفصائل، فى تقويض قدرات هذه الجماعات على محاربة إسرائيل، بل ربما ساهمت تل أبيب - شاءت أم أبت- فى تأجيج نيران الغضب المستعر ضدها. ويدرك نتنياهو قبل غيره أن ما يقوم به لن يخلق سوى دوائر لا متناهية من الاقتتال، فإسرائيل لن تحظى بفرصة الحياة المستقرة فى منطقة تمتلئ بمئات الآلاف من الثكالى والأيتام والمشردين واللاجئين جراء سياساتها الدموية وممارساتها البربرية، وما تفعله من قتل ممنهج وإبادة جماعية لن يسهم فى استعادة هيبتها المهشمة، بل سيضاعف مساعى المضطهدين من أجل ثأر سيجدون بكل السبل طريقًا لنيله. هذه هى حقائق التاريخ التى يتعامى قادة إسرائيل عن رؤيتها، ويواصلون المضى فى ذلك الطريق المسدود، الذى لن يقود سوى إلى هاوية سحيقة، لكن للأسف قبل أن يفيق أولئك المتعامون، ستكون المنطقة قد دفعت من دماء أبنائها ومقدرات شعوبها ثمنًا فادحًا جراء سعى أولئك المتغطرسين لتحويل أساطيرهم التوراتية المختلقة إلى واقع، وهو ما لن يكون. ■■■ من هنا تأتى أهمية الرهان على الأصوات العاقلة والتحركات الرشيدة لدول إقليمية فاعلة فى مقدمتها مصر، لتجنيب المنطقة ويلات الانزلاق نحو هاوية لا يعلم مداها إلا الله، والحقيقة أن القاهرة بذلت من الجهود وأطلقت من التحذيرات الكثير والكثير حتى قبل زلزال السابع من أكتوبر، بل إنها حذرت - بحكم معرفتها الدقيقة بالواقع الجيوسياسى فى المنطقة - من مثل هذا السيناريو الكارثى الذى تعيشه المنطقة. تتمسك مصر برؤية حكيمة وصوت عاقل فى مواجهة دعوات الجنون وقارعى طبول الحرب، بل إنها عندما تتمسك بامتلاك أدوات القوة إنما تسخرها من أجل حماية أمنها واستقرارها، وسلام المنطقة برمتها. ولعل من تصاريف القدر أن يتزامن اقتراب الذكرى الحادية والخمسين لانتصارات أكتوبر المجيدة مع مشهد إقليمى مضطرب ومشتعل، فحرب أكتوبر 1973 وما تلاها من مسار نحو بناء سلام عادل وشامل للمنطقة يكشف أن الأقوياء وحدهم هم من يمتلكون قرار صناعة السلام، بينما الخائفون والضعفاء هم من يرتعدون من سيرة السلام ويلجأون إلى إحراق الأخضر واليابس فى المنطقة بحثًا عن ستار من دخان الصراعات الأسود كى يخفوا أطماعهم وراءه. وقبل يومين، كان لى شرف معايشة المرحلة الرئيسية للمشروع التكتيكى بجنود الذى تنفذه إحدى وحدات الجيش الثالث الميدانى باستخدام الذخيرة الحية، والذى كشف مدى الكفاءة القتالية لجنودنا البواسل، وكانت كلمات الفريق أول عبدالمجيد صقر القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربى، عقب التدريب رسالة طمأنة للشعب المصرى على قواته المسلحة واستعدادها القتالى الدائم لحماية الأمن القومى المصرى على كل الاتجاهات الاستراتيجية، بل لا أبالغ فى اعتبارها رسالة طمأنة لكل محب للسلام وراغب فى أن يراه واقعًا على أرض المنطقة التى ملت من الصراعات. قوة مصر هى قوة للسلام، وضمانة للاستقرار الإقليمى، فهى قوة عاقلة تنحاز للحق والمنطق والشرعية الدولية، ولابد للحق من قوة تحميه، وإلا التهم التهامًا على موائد اللئام والطامعين والموتورين. من حقنا أن ننظر بقلق لما يجرى من حولنا، لكن من واجبنا أن نطمئن طالما ظلت قواتنا المسلحة قوية وقادرة، ليس فقط لما تتمتع به قواتنا المسلحة من قدرات تمكنها من مواصلة رسالتها ودورها المقدس فى الدفاع عن الوطن، وبما تمتلك من عقيدة قتالية وطنية تجعل من الجندى المصرى اليوم امتدادًا لأبطال العبور، الذين استطاعوا بعقيدتهم الصلبة وتضحياتهم النبيلة وامتلاكهم أدوات القوة، أن يمنحونا نصرًا نباهى به الأمم ونستلهم منه الدروس والعبر، ويتحسس أعداؤنا رؤوسهم عند تذكره. لكن ما يدفعنى أكثر للاطمئنان هو يقينى بحكمة ووعى القيادة السياسية المصرية، التى ترفض أن تنجر وراء مواقف غير محسوبة، ولا تتورط فى منزلقات يريدنا البعض أن نتسرع فى الاندفاع إليها، بل هى كما صاغ الرئيس عبد الفتاح السيسى الفكرة والمصطلح «تغلّب قوة المنطق على منطق القوة»، وهو أمر - لو تعلمون - عظيم.