صحيفة عبرية: اغتيال هاشم صفي الدين    سيراميكا يكشف كواليس استدعاء الأهلي للتحقيق مع أحمد القندوسي    وظائف هيئة الرقابة النووية والإشعاعية 2024.. تعرف على التخصصات    البابا تواضروس الثاني يلتقي مديري المستشفيات الكنسية بالقاهرة    «الحصاد الأسبوعي».. نشاط مكثف لوزارة الأوقاف دعويًّا واجتماعيًّا..    فتح باب الترشح لانتخاب التجديد النصفي لنقابة الصحفيين في الإسكندرية    تراجع أسعار الذهب عقب إعلان بيانات الوظائف الأمريكية    عمرو أديب: "رأس الحكمة" استثمار واعد يستهدف جذب أكثر من 8 ملايين سائح سنويًا    منسق «حياة كريمة» بالقاهرة: إقبال كبير من المواطنين على منافذ بيع اللحوم    كورسات في اللغة الإنجليزية من الجامعة الأمريكية لذوي الهمم.. اعرف المواعيد    حقيقة إلغاء الواجبات المنزلية والتقييمات الأسبوعية.. التعليم تحسم الجدل    القوات الروسية تقضي على 80 عسكريا أوكرانيا وتدمر 17 آلية في مقاطعة "سومي"    تصاعد النزوح في لبنان وسط القصف الإسرائيلي واستنفاد قدرات مراكز الإيواء    "تعليم دمياط" تشارك في "بداية " ب ورش وندوات لتنمية مهارات الطلاب    قطر يتعرض للهزيمة من الأهلي في غياب أحمد عبد القادر    مجدي عبد الغني: الزمالك لديه الحق في "التحفيل".. كهربا تراجع مستواه وهناك لاعبون يدخنون "الشيشة"    بليغ أبوعايد: فوز الأهلي على برشلونة إنجاز عظيم للرياضة المصرية    الإسماعيلي يسعى لاستعادة أحمد محسن وسط أزمة القيد    أجواء معتدلة وسحب منخفضة.. الأرصاد تعلق تفاصيل طقس السبت بدرجات الحرارة    ضبط 3000 عبوة مواد غذائية منتهية الصلاحية في كفر الشيخ    تفاصيل الحلقة الأولى من «أسوياء» مع مصطفى حسني    تكريم سهر الصايغ ورانيا محمود ياسين وخالد سرحان بمهرجان الإسكندرية السينمائي    بعد حلقة الدحيح.. ما قصة صدور حكم بإعدام أم كلثوم؟    «حياته هتتغير 90%».. برج فلكي يحالفه الحظ خلال الأيام المقبلة    الفنانة الفرنسية ماريان بورجو: «محمود حميدة عملاق وأنا من جمهوره»    خالد حماد: فيلم «معالي الوزير» أصعب عمل قدمت به موسيقى تصويرية    «قصور الثقافة»: مهرجان الإسماعيلية الدولي للفنون الشعبية أكبر من فكرة رقص    قصة أهل الكهف.. رحلة الإيمان والغموض عبر الزمن    تدريب الأطباء الشباب وتعزيز التقنيات التداخلية، توصيات المؤتمر الدولي لجراحة الأوعية الدموية بجامعة المنصورة    حملة «100 يوم صحة» تقدم 3.6 مليون خدمة طبية في سوهاج منذ انطلاقها    من هو أفضل كابتن للجولة السابعة من فانتازي الدوري الإنجليزي؟    اعتداء وظلم.. أمين الفتوى يوضح حكم غسل الأعضاء أكثر من ثلاث مرات في الوضوء    اختلفت المناطق والأدوار وتشابهت النهايات.. سر جثتين في عين شمس وحلوان    حدث في 8 ساعات| إطلاق مشروع رأس الحكمة التنموي.. ورصد أكبر انفجار شمسي    "السبب غلاية شاي".. إحالة موظفين بمستشفى التوليد فى مطروح للتحقيق -صور    طريقة سهلة لتحضير بسكويت الزبدة بالنشا لنتيجة مثالية    الطب البيطري بدمياط: ضبط 88 كيلو لحوم مذبوحة خارج المجازر الحكومية    مستوطنان إسرائيليان يقتحمان المسجد الأقصى ويؤديان طقوسا تلمودية    الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل عسكريين اثنين في معارك جنوب لبنان    شركات عالمية ومصرية وإماراتية.. تفاصيل إطلاق شراكة لتعزيز الابتكار في المركبات الكهربائية الذكية    أعضاء حزب العدل في المحافظات يتوافدون للتصويت في انتخابات الهيئة العليا    المرصد العربي يناقش إطلاق مؤتمرًا سنويًا وجائزة عربية في مجال حقوق الإنسان    واعظ بالأزهر: الله ذم الإسراف والتبذير في كثير من آيات القرآن الكريم    مصرع «طالب» غرقا في نهر النيل بالمنيا    مصرع شاب وإصابة آخر في حادث تصادم بالغربية    وزير الاتصالات يلتقي مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للتكنولوجيا    جيفرسون كوستا: أسعى لحجز مكان مع الفريق الأول للزمالك.. والتأقلم في مصر سهل    قناة السويس تكشف حقيقة بيع مبنى القبة التاريخي    الأنبا توماس يستقبل رئيس وزراء مقاطعة بافاريا الألمانية    منظمة الصحة العالمية تحذر من خطر انتشار فيروس ماربورغ القاتل    سليمان: زيزو أيقونة زملكاوية.. وبنتايك مثقف جدا    أذكار يوم الجمعة.. كلمات مستحبة احرص على ترديدها في هذا اليوم    السيطرة على حريق بخط غاز زاوية الناعورة بالمنوفية    الإسكان: إزالة مخالفات بناء وظواهر عشوائية بمدن جديدة - صور    جيش الاحتلال يصدر أوامر إخلاء عاجلة لسكان 20 قرية في جنوب لبنان    «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ».. موضوع خطبة الجمعة اليوم    هيئة الأرصاد تكشف عن موعد بدء فصل الشتاء 2024 (فيديو)    حقيقة اغتيال هاشم صفي الدين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العالم يعانى «أزمة أخلاق» الدول العظمى تريح ضمائرها بسياسات «براءة الذمة»

الهيئات الدولية «جبيرة أخلاقية» للاقتصاد العالمى الواقع تحت سيطرة الكبار
الدول الكبرى تستخدم «خطاب الحقوق» بمعايير مزدوجة حسب مصالحها
تناقض بين دعوات المساواة وحقوق الإنسان والحرية وبين انتهاكات الواقع
الإنسانية تحتاج «حداثة مصقولة» لتحقق «انبعاثاً أخلاقياً»
فى منطق «أخلاقيات براءة الذمة»: الاستعمار الغربى كان لإنقاذ الشعوب المتخلفة
يهتم العالم اليوم بالأخلاق على مستوى الخطاب فقط، مثل خطابه عن حقوق الإنسان، وقضايا المرأة ومناصرتها، وتغيرات المناخ، ولكن التطبيق على أرض الواقع يكشف لنا أن مشروع الحداثة الذى نبت وترعرع فى الغرب «متأزم» وأنه يعانى من«وهن أخلاقى»، وأصبح لدينا «أخلاقيات ما بعد الحداثة»، حيث المجتمعات المتفككة، وافتقاد الروابط الاجتماعية مع تفشى الفردية. وأكبر دليل على «أزمة الأخلاق»، أحداث غزة وما يحدث فى فلسطين المحتلة، التى يصدر لنا فيها الغرب ما يمكن أن نسميه «أخلاقيات الوهم»، فى محاولة لتبرئة الذمة من الجريمة التى ارتكبها أو شارك فيها، أو غض الطرف عنها وكذلك ما يروجه الغرب عن تنمية العالم الثالث، بدليل أن الأرقام والإحصائيات تؤكد أن الفقر يزداد، ومعدلات الهجرة فى تنامٍ.
التصدى لتحليل ونقد هذه الإشكاليات لا يقدر عليه إلا عالم اجتماع سياسى، بحجم الأستاذ د.أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية، فى أحدث كتبه بعنوان "سؤال الأخلاق فى مشروع الحداثة.. جدل الحضور والغياب" الذى صدر مؤخرًا عن العويس الثقافية. ويبحث الكتاب عبر 11 فصلًا فى "سؤال الأخلاق" ويتقصى الجذور منذ عهد الفراعنة حتى يومنا هذا، وعبر مختلف صنوف الفكر الفلسفى والسياسى والاجتماعى، ويتتبع انكساراتها وأزماتها فى مجتمع الحداثة وتطوراته المعاصرة.
اقرأ أيضًا| صبحى: ثقتنا بلا حدود فى أبطال الإسكواش بأولمبياد 2028
طرح د.أحمد زايد فى الكتاب حاجة العالم إلى نموذج أخلاقى جديد نبحث فيه عما سماه ب"حداثة مصقولة" تحقق "انبعاثًا أخلاقيًا" من داخل الفرد، وتناول الكتاب الإشكاليات المعاصرة التى فرضها الدخول إلى العالم الرقمى والذكاء الاصطناعى وتغيرات المناخ، وجدلية وجود علاقة بين الفقر والفساد والهيمنة، الكتاب ينتهى بفصول ثلاثة يناقش فيها إمكانية وجود أطر أخلاقية "بازغة"، بسؤال عن العلاقة بين الدين والأخلاق، ويطرح رؤيته حول أهمية ثقافة التسامح.
فى الفصل الأول من الكتاب (الأخلاق: إشكاليات التعريف والتأطير) سعى المؤلف إلى أن يكون هذا الفصل بمثابة مدخل لفهم قضية الأخلاق عبر مشاكلة التعريف وما يثيره من غموض وتشابك مع مفاهيم أخرى.
ولكن هل، إلى هذه الدرجة، يحتاج تعريف الأخلاق إلى فصل كامل؟!
بالتأكيد، فالأخلاق تفهم فى أبسط معانيها على أطر معيارية يقاس عليها السلوك السوى فى مقابل السلوك غير السوى، ولكن المجتمعات تختلف فيما تعتبره سلوكًا سويًا أو غير سوى فى ضوء السياق الذى تتشكل فيه الأخلاق، هذا مجرد مثل على معضلة التعريف، وميز المؤلف بين ثلاثة معانٍ للأخلاق: معنى واسع النطاق يوسع من مفهوم الأخلاق بحيث تشمل كل القيم الأخلاقية التى تحكم السلوك الذى يمتثل لما يسود فى المجتمع من أعراف بغض النظر عن كونها مثلًا عليا، ومعنى ثانٍ ضيق يفهم الأخلاق على أنها تشير إلى السلوك الفاضل فحسب، وهناك معنى أضيق يظهر فى حالة القواعد والمبادئ التى تحكم سلوكًا خاصًا يرتبط بمهنة معينة كالطب أو الهندسة أو الصيدلة...
إلخ، كما يمكن التفرقة بين الأخلاق الجماعية والأخلاق الفردية، كما فرق المؤلف بين نمط مثالى وآخر واقعى للأخلاق، ونبه المؤلف إلى أنه لا يمكن فهم الأخلاق إلا فى السياق التاريخى، فتاريخ البشرية لا يكشف عن اتساق أخلاقى، حتى بعد ظهور الأديان السماوية التى يفترض أنها نظمت للبشر أخلاقهم، وصححت العلاقة بين الأرض والسماء، فللأسف استخدم البشر الديانات نفسها لتفجير صراعات وحروب خرجت بالبشر بعيدًا عن الأطر الأخلاقية، والدليل أيضًا أن عصرنا هذا يشهد مناقشات كثيرة حول (الأزمة الأخلاقية) أو (الانحدار الأخلاقى) أو (الهلع الأخلاقى) أو (الوهن الأخلاقى)، وهى مفاهيم تعكس الحالة الراهنة للأخلاق فى عصر العولمة وخلص المؤلف فى هذا الفصل إلى أن المستقبل يشى بتغيرات أخلاقية كبرى فى ضوء العالم الرقمى الذى يستظل الكرة الأرضية.
وفى الفصل الثانى (سؤال الأخلاق: المقاربات الفلسفية) يؤكد الكاتب أن قضية الأخلاق كانت حاضرة عبر المشهد الإنسانى برمته، وهو ما يعكس حيوية الوعى الإنسانى وتفتحه الأخلاقى، إلا أنه يعكس فى الوقت نفسه أن الأخلاق كانت غائبة فى الممارسة العملية، بل كانت هناك فجوة تاريخية تتسع باستمرار عبر التاريخ. وفى الفصل الثالث (البحث عن سوسيولوجيا للأخلاق) خلص المؤلف إلى أن ارتباط المشروع السوسيولوجى بواقع المجتمعات الحديثة جعله يعانى من مشكلة أخلاقية، كما بدت الدول الغربية وكأنها المنبع الأصلى للتكامل الاجتماعى، والتعددية، والقيم الأخلاقية الفاصلة.
النكوص الأخلاقى
وفى مفتتح الفصل الرابع (عولمة الحداثة والنكوص الأخلاقى) يتساءل د.أحمد زايد: لماذا لم تحقق الحداثة متطلبات التنوير؟ ولماذا لم يتشكل العالم على معايير العدل "الأرسطى" وعلى معايير الواجب الأخلاقى بشكله المطلق عند "كانط" ، أو على شكل مثالى كما جاء فى فلسفة التنوير؟ ويدعونا المؤلف إلى أن نعاود البحث فى مشروع الحداثة المعاصر الذى يسيطر على العالم منذ الحملات الاستعمارية الأولى التى تمثلت فى الكشوفات الجغرافية وحتى وقتنا الراهن.
ويستمر المؤلف فى طرح الأسئلة الإشكالية ويقول: لماذا تنكسر الدعاوى الأخلاقية والإنسانية على أعتاب السياسة، ولماذا ينتصر الأقوى ويهمش الأضعف، ولماذا تعمل الدول العظمى على تدعيم نظام عالمى غير عادل، وقد أنتج مفكروها -ولا يزالون- كل صور البحث عن العدل والنور؟ ولماذا كل هذا التناقض الذى ينتجه مشروع الحداثة بين دعوات المساواة وحقوق الإنسان والحرية، وبين كل صور الانتهاك لحقوق الإنسان بدءًا من الاستعمار قديمه وحديثه وانتهاء بالاستخدام المروع للقوة والهيمنة، والعمل على بناء نظام عالمى معولم تتحد فيه أشكال تقسيم العمل على نحو يبتعد كثيرًا عن دعوات التنوير، وأسئلة التنوير التى طرحت على مر العصور؟
قتل كانط وإحياء ميكافيلى
لقد أدت الحداثة إلى قتل "كانط" فى مقابل إحياء "ميكافيلى".حيث أعلى كانط من قيمة الحق والواجب، معرفة الحق المطلق وصولًا إلى طلب الخير فى حد ذاته، ولكن المشروع الحداثى الغربى أهدر ذلك، فى مقابل قيمة المصلحة، لتأتى الممارسات السياسية متسقة مع هذا المبدأ النفعى، ظهر ذلك بجلاء فى مقولة تشرشل الشهيرة "ليس هناك أصدقاء دائمون، ولكن توجد مصالح دائمة" لتكون هذه العبارة المفتاحية سبيلنا فى فهم الأخلاقيات التى حكمت وتحكم السياسة فى الواقع العملى، وهو ما يعنى الاعتماد الأكبر على الخداع والسلبية والفساد والاستغلال وعدم الشفافية، كما أنه ينتج علاقات مادية تتجسد فى الأسواق والبورصات والبنوك والشركات الكبرى المهيمنة على أقدار سكان الأرض، الذين وجدوا أنفسهم فى مواجهة أيديولوحيات ليبرالية جديدة يسيطر فيها رأس المال على مقدرات المجتمع، رغم ما يتم رفعه من شعارات براقة تدور حول: حقوق الإنسان، والديموقراطية، وإعلاء الروح والقيم الإنسانية.
واقع الأمر يقول لنا إن مشروع الحداثة لم ينتج ممارسات حداثية نقية، ورأينا الوجه الآخر فى استعمار الغرب للشعوب الأخرى، واستعادة العبودية عبر جلب الزنوج من إفريقيا وإقامة نظم استعارية قائمة على الفصل العنصرى وإشعال نار حربين عالميتين.
الأخلاقيات اللزجة
وتحت عنوان قد يبدو غريبًا: إنتاج الأخلاقيات اللزجة.. هل الحداثة سائلة حقاً؟ يقول المؤلف إن اللزوجة تتبدى فى مظاهر عدة: فى التناقض بين الأقوال والأفعال، وبين الوعود، وبين وقع الشعارات، وهذا يقودنا بالتبعية إلى ما مرت به الإنسانية من مماطلة فى استقلال دول العالم الثالث، وفى مشكلة الفصل العنصرى، والمماطلة الطويلة جدًا فى حل مشكلات قديمة مثل مشكلة فلسطين، وفى حل مشكلات حديثة مثل مشكلات الفوضى والتفكك فى بلدان "الربيع العربى"، وهو ما يمكن تلخيصه فى أن للحداثة وجها آخر غير وجهها الفكرى والأخلاقى، بحيث يحق لنا أن نقول إنها حداثة بوجهين.
أخلاقيات براءة الذمة
تسبب التناقض الكبير فى مشروع الحداثة الغربى بين تحقيق الطموحات الأخلاقية الكبرى وبين سلوكياته السياسية والاقتصادية إلى وقوعه فى "حرج أخلاقى" أو إذا شئنا الدقة "أزمة أخلاقية كبرى" فسعى إلى انتهاج "أخلاقيات براءة الذمة". يقول د.أحمد زايد فى كتابه الكاشف إنه على قدر ما أنتجت الحداثة من أفكار مثالية ذات أبعاد أخلاقية منيرة، على قدر ما أنتجت فكرًا متمركزًا حول السلالة الأوروبية البيضاء، مع نظرة دونية للثقافات الأخرى، ولو دققنا لوجدنا أن الفكر الغربى حمل فى طياته روحًا متحيزة مهدت للاستعمار، بل وقدمت له مسوغًا فكريًا، ووصل الأمر إلى زعمهم بأن غاية الاستعمار هى تحرير الشعوب غير الغربية ووضعها على طريق الحداثة! بل زعموا أن ما يملكه الغرب من علم ومعرفة يصب فى مصلحة البلاد التى يتم استعمارها وكأننا أمام مشروع خيرى! فواقع الأمر يقول إن الشعوب المستعمرة لم تجن شيئًا من حداثة الاستعمار، بل كانت فى حقيقة الأمر مجالًا للاستغلال ونهب الثروات، ولم ينظر المستعمرون قط إلى الشعوب المستعمرة على أنها شعوب تستحق العيش والكرامة. وفى إطار ثقافة إبراء الذمة يحاول البعض القول بأن الثقافة التقليدية هى عبء على التحديث.
ولم يكن ليفوت د.أحمد زايد الفرصة وهو يصك مصطلح "براءة الذمة" من دون أن يتعرض لملف التعامل الدولى مع ملف حقوق الإنسان، فقد نجح مشروع الحداثة فى إنتاج عدد من المواثيق الخاصة بحقوق الإنسان، إضافة إلى الكثير من صور الاتفاقيات الدولية المعاصرة حول حقوق الطفل والمرأة وذوى الاحتياجات الخاصة وكبار السن وغيرها من منظمات تراقب تطبيق مبادئ حقوق الإنسان وعلى رأسها منظمة الشفافية الدولية وهو ما يعتبر وجهًا اخلاقيًا مشرفًا لمشروع الحداثة، ولكن على نطاق التطبيق نجد الأمر مختلفًا، وأن الدول الكبرى تستخدم خطاب الحقوق بمعايير مزدوجة لدرجة تطغى على المشروع الأخلاقى المشرق للخطاب..
فقد يُترك شعب ليُقتل ويُعذب، وقد تُترك شعوب وقبائل تقتل بعضها بعضًا تحت سمع وبصر العالم من دون تدخل إلا بمعونات وإغاثات للمنكوبين على أحسن تقدير، وفى هذا الإطار المتناقض للحداثة ما بين النظرية والتطبيق رأينا مفاهيم ونظريات حول التنمية البشرية والانسانية والتنمية بالمشاركة والتنمية من أسفل وحوكمة التنمية والتنمية الشاملة، والتنمية الثقافية، وتنمية رأس المال الاجتماعى ثم التنمية المستدامة وأهدافها السبعة عشر، ثم أخيرًا الاقتصاد الأخضر والتنمية الخضراء.
ورغم إنفاق الأموال الكثيرة على تلك المسميات -يضيف د.زايد فى كتابه- لا تجد لها صدى يذكر على أرض الواقع ، بل نجد انتشارًا لمفاهيم: التخلف والتبعية، وغيرها من المفاهيم التى تتطور على الهامش..
ونجد أن القضايا التى تعالجها التنمية لم تحل، فمعدلات الفقر فى ازدياد على مستوى العالم (حسب إحصاءات 2022)، والدليل الذى تؤيده الأرقام يقول إن 689 مليونًا يمثلون 9.2% من سكان الأرض البالغين 7.6 مليارات نسمة يعيشون تحت خط الفقر المقدر ب 1.9 دولار فى اليوم، بل إن إحصاءات تؤكد أن 60%من حالات الفقر المدقع توجد فى إفريقيا جنوب الصحراء..
نحن إذًا أمام خطابات دولية براقة عن التنمية تصدر عن الأمم المتحدة ومنظماتها والبنك الدولى، تخالف الواقع، وهو ما قد يعنى أن هذه الهيئات الدولية تصنع جبيرة أخلاقية لكل أشكال الفعل الاقتصادى الذى تسيطر عليه الدول الكبرى، وهذا التناقض الكبير من المتوقع أن ينتهى إلى حالة من "الوهن الأخلاقى".
وتناول الكتاب فى فصله الخامس المعضلات الأخلاقية فى مجتمع ما بعد الحداثة، وكان أبرزها سيطرة ثقافة الاستهلاك على عقول الأفراد وأذواقهم، مع التحول إلى الأسواق المعولمة، وسيطرة شبكات التواصل الاجتماعى وصنعت مجتمعًا جديدًا، يختلف اختلافًا واضحًا عن المجتمع المعاش، فنحن بصدد عالم جديد وواقع جديد يفرض علينا أساليب جديدة للتعامل والأخطر ما يفرضه من تحديات أخلاقية كثيرة. ليس هذا فحسب بل إنها تعمق من حالة "الهلع الأخلاقى".
وأفرد المؤلف الفصل السادس للحديث عن الفضاءات الإلكترونية: المعضلات الأخلاقية، فالإحصاءات تكشف لنا عن ارتفاع غير مسبوق فى استخدام الفضاءات الإلكترونية، يكفى أن نعرف أن عدد مستخدمى الإنترنت ارتفع فى 2023 ليصل إلى 19.5 مليارات، بعد أن كان 3.9 عام 2018، وأنهم يستخدمون التطبيقات والبرامج فى حياتهم اليومية، وهو ما يطرح علينا تساؤلًا ملحًا: هل ستحتفظ المجتمعات بهويتها الثقافية أم أنها سوف تتشظى وتنقسم على نحو يهدد وجودها؟
واستعرض المؤلف فى الفصل الثامن قضايا الدين والأخلاق، فى محاولة لاستجلاء المعانى الكامنة فيها، وفى التاسع يخلص المؤلف إلى أن ثالوث الفقر والفساد والاستبداد السياسى يشكل مركبًا تترابط أضلاعه بشكل معقد وهذا التشابك له أبعاده الكثيرة وجميعها لها انعكاسات أخلاقية وقيمية. وفيه يخلص إلى نتيجة مؤداها أن حالة "الوهن الأخلاقى" جالبة لمزيد من هذا الثالوث.
العولمة وأخلاقيات السلم والتسامح
هل يمكن أن يتحقق السلام والتسامح فى زمن العولمة؟ ربما يكون هذا السؤال من أصعب الأسئلة التى يمكن أن تتصدى لها العلوم الاجتماعية كما يذكر المؤلف فى مفتتح الفصل العاشر للكتاب، ويرصد أن النتيجة على أرض الواقع هى مزيد من العنف والصراع، مع تزايد فى معدلات الفقر والبطالة، وتصل إلى الذروة فى المجتمعات الفقيرة، مع ظهور صور جديدة من الجريمة، خاصة المتعلقة بانتقال البشر عبر العالم، وموجات الهجرة غير الشرعية، مع ارتفاع قياسى لأعداد اللاجئين، بخلاف من يطلبون اللجوء السياسى والمشردين بسبب تصاعد الحروب والنزاعات المسلحة والصراعات العرقية.
ولكن ما فرص تأسيس قيم السلام والتسامح فى ظروف العولمة؟
سعى المؤلف فى الفصل العاشر للإجابة عن هذا السؤال.. فيقول: العولمة هى اقتسام غير متكافئ لمنتجات مشروع الحداثة الغربى، كما يظهر تناقض مهم من تناقضات العولمة هو التناقض بين الخطاب الذى يدعو إلى التوافق والسلام والحوار، وخطاب آخر يذكى الصراعات ويقويها، ولننظر مثلًا إلى الدعوة للحوار بين الشمال والجنوب من أجل تقليص فجوة الفقر والتخلف، والدعوة للحوار بين الأديان من أجل تقليص التوترات الطائفية والدينية، وإصدار اتفاقيات دولية حول حماية حقوق الإنسان عامة والمرأة والطفل خاصة وحماية المجتمعات من الجريمة والمخدرات والإرهاب والاتجار بالبشر، كل هذا يتناقض مع حديث الفوضى الخلاقة وصدام الحضارات وتأجيج الحروب والنزاعات المسلحة والتربح الشديد من تمويل الإرهاب وتجارة المخدرات والتجارة فى البشر.
ويواصل د.زايد رصده لتناقضات العولمة بين خطاب تصدره، وواقع تطبقه على الأرض، ويظهر ذلك على سبيل المثال، لا الحصر فى ارتفاع معدلات الفقر وفى ظهور صور جديدة من الجريمة المتعلقة بانتقال البشر عبر العالم، وفى تزايد معدلات اللاجئين.
الانبعاث الأخلاقى
وماذا بعد؟
أليس هناك من وسيلة للبحث عن مسارات أخلاقية جديدة، تعيد التراث الأخلاقى الذى تشكل عبر الزمن؟
يتحدث د.زايد عما سماه ب"الانبعاث الأخلاقى" بعيدًا عن الفهم الخاطئ باستدعاء الماضى، ويتحدث أيضًا عن "الحداثة المصقولة" ل" غسل" وجه الحداثة مما شابه من صور الهيمنة والاحتكار، وهو ما يؤسس لوجود إنسانى يستعيد روح التنوير ويستنهض الشعوب نحو تحقيق مجتمع إنسانى جديد قوامه العدل والمساواة والنزاهة والإنجاز.
نبذة عن المؤلف
د.أحمد زايد عالم وأستاذ علم الاجتماع السياسى، المدير الحالى لمكتبة الإسكندرية، تولى عمادة كلية الآداب جامعة القاهرة من 2005 إلى 2009، وعمل مستشارًا ثقافيا لمصر فى الرياض من 1998 إلى 2001، وتم اختياره ممثلًا لمصر لدورتين فى اجتماعات لجنة العلوم الاجتماعية والإنسانية باليونيسكو، وهو عضو بمجلس الشورى.
كما أنه يتمتع بعضوية العشرات من المجالس والهيئات العلمية والبحثية المصرية والعربية والدولية، وتضم قائمة المؤلفات العلمية ل د.زايد عددًا كبيرًا من العناوين يصل إلى أكثر من 200 عنوان، ما بين كتب ومقالات، وفاز بالعديد من الجوائز، من بينها جائزة الدولة للتفوق العلمى ثم التقديرية فى العلوم الاجتماعية وجائزة سلطان العويس الثقافية فرع الدراسات الإنسانية والمستقبلية 2021.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.