فى أمسية ثقافية ما أقيمت فى الخارج مخصصة لقراءات أدبية لمبدعين من دول مختلفة، صعدت على المنصة كاتبة شابة من إحدى دول أمريكا اللاتينية لتقرأ نصًا لها، وبلهجة واثقة وبلا أى قدر من التردد انسابت الكلمات إلى أسماعنا تحكى قصة حب مكشوفة بين رجل وامرأة، بمفردات تصف بلا مواربة ما يجرى بين بطلى العمل، فى نص يسعى لوضع الجسد كفاعل مؤثر فى علاقة نفسية مشحونة بالتناقض بين الرفض والقبول. انتقل التوتر الذى صنعته الكاتبة من خلال النص إلينا كمستمعين، لكنى من بينهم كان للتوتر سبب إضافي، فقد دار فى ذهنى وبصورة عفوية احتمالات المشاكل الناتجة عن نص بهذه الجرأة، تلفت لأرى ردود فعل الجمهور والمنظمين، لكنها لم تكن سوى انفعالات طبيعية، ليس من بينها ما يوحى بالرفض أو الغضب من انتهاك محرم أو التعدى على منظومة أخلاقية ما. على الأغلب أنا الوحيد الذى دارت فى ذهنه مخاوف من ردود الأفعال على نص كهذا، لأنى كنت العربى الوحيد فى تلك الجلسة! فى سياقات أخرى مشابهة، وفى نقاشات حول مواضيع بعينها كان الشعور نفسه يطوف حولى بشكل أو بآخر، شعور بالارتباك أتشاركه مع من ينتمون مثلى إلى الثقافة العربية، وفى لحظات كتلك وعند التعامل مع ثقافات أخرى نلمس إلى أى حد تقيدنا ثقافتنا بدلًا من أن تفتح لنا أبواب الحرية للتفكير والتساؤل، كيف أن الثقافة التى تفترض إسقاط الحواجز كشرط أولى لتحقيق النتائج المبتغاة بالوصول إلى سبل أرقى للتعامل مع الحياة، تكبلنا بمنظومة مجتمعية زائفة صعدت بحملات التخويف والقهر إلى مرتبة القوانين. ليس المقصود مما سبق الدفاع عن نص ما، أو التحريض على نوعية بعينها من الكتابة، ولا المطالبة بإباحة استخدام أى قاموس كلمات بلا محاذير مسبقة، وليس الهدف أيضًا الحض على تكسير تابوهات ما، بقدر ما هى محاولة لتأمل إلى أين أدت بنا لغة واستعارات تم فرضهما من خارج البنى الثقافية والإبداعية بعد سلسلة من المواجهات والنقاشات المحتدمة خرج منها الجميع خاسرًا وعلى رأسهم مجتمع لم ينجح سوى فى الاستقرار على صيغة منافقة تفصل بين القول والفعل، بحيث يكتفى من الصيغة الدينية والأخلاقية بقائمة من الأقوال والأفعال الشكلية من دون تحقيق تطابق بين اللغة ومعناها، ما أدى إلى فقدان قاموسنا اللغوى مكانته وقدراته، باتت لغة تائهة على أرضها نخرج كل عام فى عيد صنعناه لها نبحث فيه عنها، ونناشد من يستطيع أن يردها إلينا. فى التشجيع على تعلم أسرار اللغة العربية نجد على رأس الأسباب أنها لغة القرآن الكريم، ولا جدال فى ذلك، لكننا لا نجد من بين المحفزات على تعلمها وإتقانها أنها الطريقة التى نتمكن بها من التواصل مع بعضنا البعض، أن نشرح أفكارنا، نعبر عن مشاعرنا، عن رؤيتنا للعالم، وكأنها أمور ثانوية لا قيمة كبيرة لها، لهذا نكتفى من لغتنا بالضروري، بما يعبر عن الاحتياجات الأساسية: أكل، شرب، نام، عمل، تزوج، أنجب، ثم مات رحمه الله وودعناه من دون أن يكتشف ما تعنيه الحياة حقًا. لماذا نحن هنا؟ ما طبيعة هذا الاختبار والهدف منه؟ هذه أسئلة لا يجوز، فى مجتمعنا، طرحها إلا إن كان مضمونًا الوصول من خلالها إلى إجابات محددة، وعليه فلا قيمة إذًا لشغل أنفسنا بها، نسقطها بكل مفرداتها ونتخفف من عبء كلمات إضافية بلا استخدامات حقيقية. ما الاختبار؟ الإجابة: خلقنا الله لنعبده فإن أطعنا دخلنا الجنة وإن عصينا فالنار عقابنا. ومع هذا التبسيط المخل للأمور فلا داعى للبحث بين دهاليز القواميس عن مفردات واستعارات تعبر عن حيرتنا وكأنه عبر إخفاء هذا النوع من المفردات تزول معانيها! للوجود مستويات متعددة ولا يمكن اختبارها أو الترقى عبرها إلا من خلال اللغة بشكل أساسي، هذه البديهة الأولى عند اللغويين، ولم يكن نص كاتبة أمريكا اللاتينية المشار إليه والذى استخدمت فيه لغة (مكشوفة) إلا لعبة لغة تمزج فيها التوتر الناتج عن علاقة يشوبها التناقضات بالحضور الجسدي، نص كهذا سينال هو وصاحبته الشهرة فى بلادنا للجرأة فى استخدام الألفاظ، لكنه فى ثقافات أخرى لن يكون أكثر من نص تمت قراءته فى أمسية أدبية وجرت حوله المناقشات ثم أنه سيكون على كاتبته التأكيد على فرادة عملها من خلال تجارب أخرى يتم النظر إليها ومقارنتها بنصوص أخرى لتبقى أو يتم نسيانها حسب الظروف والأحوال لكنه فى كل الأحوال يسهم مع غيره فى تدعيم أسس ثقافة حرة. فى الأعوام الأخيرة ظهرت، فى مختلف المجالات، موجة من الكتابة العربية الجديدة، تشبه نسق المجتمع هذا.. المكتفى من اللغة باحتياجاته الأساسية منها، الذى يتجنب التفكير فيما هو أبعد من مجموعة إرشادات بسيطة يصدق أنها كافية لهذه الحياة وما بعدها، والذى لا ينظر فى تناقضاته ولو فعل قد يتبين له إلى أى حد تلاعبت بعقولنا لغة مزيفة لننزلق إلى حالة تخبط فلا نتمكن من إجراء عمليات التفرقة المنطقية بين الخطأ والصواب، بين الضحية والجلاد، بين ماضينا وحاضرنا. هل انصاعت الثقافة المصرية، والعربية، أخيرًا لقواعد مجتمعات سعت بلا هوادة لفرضها بحيث لا تنطق إلا بما تؤمن به، لا تحكى سوى القصة التى ترغب فى سماعها، تكتفى من الوجود بصورته الساذجة، بالواقع اليومى الذى استقر فيه الناس على أدوار مرسومة لا مغامرة فيها ولا رغبة فى الخروج عن إطارها! المؤكد أن ثمة الكثير من المشاريع والأفكار داخل ثقافتنا، محاولات لا تجد طريقها، تسعى لطرح أسئلة تواكب زمنها وتبحث فى اللغة لتجد منها ما يناسب جمهور اللحظة، لغة لا علاقة بكونها مهجورة أو تراثية، ليست العامية المبتذلة، ولا الفصحى غير المستساغة، لكنها ببساطة اللغة التى تناسب واقعنا وأفكارنا ومشاكلنا، لغة قادرة على النظر فى لاوعينا لترينا تناقضاتنا وعجزنا، لغة لا نخجل منها عندما نقرأها أو نسمعها، نكتب بها كما يكتبون فى الخارج، نعبر بها عن الحب والجنس، ونناقش بها مختلف قضايانا من دون أن تثير غرائز أحدهم أو تغضب منها سلطة ما. ما الضرورة لهذه التخمة من القواعد اللغوية فى الكتب المغلقة فيما لا وجود عملى لها فى الواقع! لا، ليس هذا طعنًا فى النحو ولا مطالبة بالتخلى عنه، بل سؤال مباشر عن لغة منقسمة على ذاتها؛ واحدة فى الكتب المدرسية وكتب المثقفين ولا علاقة لها بالأخرى المسيطرة.. وهذا ما يجبرنا على الانشغال بلغتنا، ليس باعتبارها وسيلة للتواصل بل كعائق يمنع اكتمال فعل الحوار، فهل ثمة وسيلة ما لترميم هذه اللغة، لنتمكن من تجاوز هذا القدر المخيف من سوء الفهم بيننا وبين بعضنا البعض، وبيننا وبين العالم.