نحن نسلم بياناتنا وصورنا وحساباتنا واصواتنا وتفاصيلنا مع كل ضغطة «نيكست» هذا مواطن استثنائى لديه معلومات وفيرة جدا عن لا شىء، لا يقرأ العربية ولا الإنجليزية وتسير معه بالشبه ويكتب الإهداءات والتهانى بأخطاء إملائية جسيمة وتتشابه عليه حروف السين والصاد، والتاء والطاء، والزاى والذال، وتختلط عليه تركيبات الجمل، ويقسم بأيمان الكترونية غليظة طوال اليوم، بينما يرسمها كما ينطقها ويكتب لفظ الجلالة «الله» متبوعا ب «ى» ولا يعرف انها تنطق مكسورة فقط. مواطن فذ، لا تفوته فرصة واحدة الا وتكلم فيها عن فوائد وأضرار وأخطار الواقع الافتراضى وأهوال التكنولوجيا ومهازل الانفتاح على العالم ومآسى السطو الالكترونى ومخاطر الأمان والخصوصية، ومسئولية شبكات المحمول عن بياناته الشخصية وشركات التكنولوجيا عن حماية أمنه ويعفى نفسه من أى لوم أو جهل ولا تسترعيه قوائم الشروط والأحكام التى يضغط عليها بتعجل شديد جدا «نيكست»! يتحدث فى كم هو مخيف ذلك الذكاء الاصطناعى الملعون الذى سيستولى على مواقع البشر وموقعه هو ذاته، وعن خطورة الجريمة الالكترونية واللعنة التى أصابت أطفالنا وفداحة التكنولوجيا وخطورتها، يعنى هذا مواطن خبير. يمضى بالفهلوة فى كل شأن حتى مع التكنولوجيا لا يصنع شيئا الا انه يضغط «نيكست» أو «التالى»، ويتمادى فى الضغط دون أن يقرأ أو يفهم أو يعرف على ماذا يبصم من شروط وأحكام تتيح بياناته وتكشف سوءاته وتفضح كل العورات من الخطأ الاملائى حتى الفكرة الفلسفية لتناول التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى، وكيف ان العالم صار مخيفًا وغير آمن ولا مطمئن، الواقع بالنسبة لعقله غائب والقادم مخيف والماضى لم يشبعه كلامًا. قبل عشرة أعوام دعانى مركز أبحاث الأمان فى كاسبرسكى- لاب الروسية لدورة تدريبية فى المجر على ضفاف نهر الدانوب، كان كلام قد بدأ يسرى عن الخطورة والأمان فى كل عملية تدور بالتكنولوجيا وما شابه، بدءا من انشاء حساب على اى موقع تواصل اجتماعى وحتى عمليات الدفع الالكترونى والبنوك الالكترونية، وبعد محاضرات مكثفة ليومين حاضر خلالها كبار خبراء الأمن والسلامة على الانترنت تيقنت أنه لا سبيل لتحقيق أمان سيبرانى كامل على مستوى الفرد او الجماعة او المجتمعات او الدول او العالم.. هذه قضية يستحيل تحقيقها، سألت المحاضر ذلك النهار: وماذا عن أخطر ما يتوجب الحذر منه للأشخاص الذين يتعاملون مع كل هذا الحجم من التكنولوجيا والاتصال؟ سألنى من أين أنت؟ فأجبته: مصر، فابتسم خبير الأمان والسلامة الروسى وقال: أخطر ما يتوجب الحذر منه هو كلمة: «نيكست». وهذه سفرية عدت منها بأفكار أخرى وقناعات مختلفة، دفعتنى لإغلاق حساباتى على مواقع التواصل أكثر من تسعة شهور، ثم بالطبع تغير الحال وفشلت فى الاستمرار، واستمر المواطن «نيكست» لا يعترف بالاصدارات الأصلية لأى منتج برنامج أو نظام أو حتى تطبيق يضعه على هاتفه أو جهازه «لابتوب». كلمة «نيكست» يا عزيزى المواطن تسلمك حرفيًا بلا رجعة لكل شىء، والله لو قرأت مرة واحدة ما توافق عليه لما فعلتها بكل هذه السهولة والاستهتار، نحن نسلم بياناتنا وصورنا وحساباتنا واصواتنا وتفاصيلنا مع كل ضغطة «نيكست»، المسألة لدى المواطن هذا كأنها لا تعنيه أو تهمه، ثانوية جدا، يراها مضيعة للوقت وأراها مخيفة لدرجة تجعلنى الآن أضغط «نيكست» بشراهة.