نشأت الديهي: سرقة الكهرباء فساد في الأرض وجريمة مخلة بالشرف    تعرف على إحصائيات التنسيق الفرعي لمرحلة الدبلومات الفنية بمكتب جامعة قناة السويس    قطر: الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني مثال صارخ لتردي وغياب سيادة القانون    إبراهيم عيسى: 70 يوم من عمل الحكومة دون تغيير واضح في السياسات    أخبار 24 ساعة.. إتاحة رابط لتظلمات الدفعة الثانية بمسابقة 30 ألف معلم    بني سويف تدشن اليوم فعاليات المبادرة الرئاسية "بداية جديدة لبناء الإنسان"    عضو اتحاد غرف السياحية يوضح أرخص رحلة عمرة لهذا العام    سعر الحديد والاسمنت بسوق مواد البناء اليوم الثلاثاء 17 سبتمبر 2024    رسميًا.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري قبل ساعات من اجتماع الفيدرالي الأمريكي    سعر الزيت والأرز والسلع الأساسية بالاسواق اليوم الثلاثاء 17 سبتمبر 2024    استشهاد 3 فلسطينيين جراء قصف الاحتلال منزلًا في مدينة غزة    حملة تضليل روسية لصالح اليمين المتطرف الألماني    محمد صلاح يتصدر التشكيل المتوقع لمباراة ميلان ضد ليفربول فى أبطال أوروبا    شاهد.. اختبارات "كابيتانو مصر" بمحافظة قنا استعدادا لانطلاق الموسم الثالث    محسن صالح: تاو أفضل بديل لوسام.. وعبد الله السعيد انطفأ بعد الأهلى    وزير الرياضة يتفقد مركز شباب الإمامين والتونسي ويشهد احتفالية المولد النبوي    «عقد تاريخي».. تفاصيل اتفاق الأهلي مع الشناوي للتجديد    حسام حسن يحدد 4 مطالب بشأن نظام الدوري الجديد    «توت بيقول للحر موت» .. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم الثلاثاء 17 سبتمبر 2024    المنافسة بالمزاد على لوحة "م ه م - 4" ترفع سعرها ل 13 مليون جنيه فى 6 ساعات    الإعدام غيابيا لمتهم تعدى على طفلة بكفر الشيخ    ضبط المتهمين بسرقة مبلغ مالى من تاجر في الهرم    مصرع طالب سقط من قطار في منطقة العجوزة    ننشر صور ضحايا خزان الصرف الصحي بإحدى قرى المنيا    تشييع جنازة شاب قتل على يد اصدقائه بقرية جردو بالفيوم    وزير الثقافة يفتتح "صالون القاهرة" في دورته ال 60 بقصر الفنون.. صور    شيرى عادل عن الانفصال: أهم شىء أن يتم باحترام متبادل بين الطرفين.. فيديو    قرار من نقابة المهن التمثيلية بعدم التعامل مع شركة عمرو ماندو للإنتاج الفني    أحمد موسى: إحنا بلد ما عندناش دخل مليار كل يوم.. عندنا ستر ربنا    3 علامات تدل على أن الرجل يحبك أكثر مما تتوقعين    المخرجة شيرين عادل تطرح البرومو الدعائي لمسلسل «تيتا زوزو»    دار الإفتاء: قراءة القرآن مصحوبة بالآلات الموسيقية والتغني به محرم شرعًا    د. حامد بدر يكتب: في يوم مولده.. اشتقنا يا رسول الله    وكيل صحة الإسماعيلية تبحث استعدادات مبادرة "بداية جديدة لبناء الإنسان"    بعد أنباء عن إصابات بالتسمم.. صحة أسوان تنفي شائعة تلوث مياه الشرب    المصري مهدد بإيقاف القيد، رد ناري من التوأم على هجوم المصري والتهديد بالشكوى في المحكمة الدولية    بالصور.. ثلاثي ريال مدريد يتسبم جوائز دوري أبطال أوروبا    مادلين طبر تعزي الكاتب الصحفي عبدالرحيم علي في وفاة والدته    أسعار سيارات جاك بعد الزيادة الجديدة    هل يؤثر توقف التوربينات العلوية لسد النهضة على كمية المياه القادمة لمصر؟.. خبير يوضح    اختيار نادر الداجن أمينًا لريادة الأعمال المركزي بحزب مستقبل وطن    حدث بالفن| خطوبة منة عدلي القيعي ومصطفى كامل يحذر مطربي المهرجانات وعزاء ناهد رشدي    السيرة النبوية في عيون السينما.. الأفلام الدينية ترصد رحلة النبي محمد    نقيب الفلاحين: أرباح زراعة فدان الطماطم تصل إلى نصف مليون جنيه    نتنياهو: إسرائيل قد تتحرك عسكريا ضد حزب الله حال فشل الدبلوماسية    "الأهلي أعلن ضمها منذ 9 أيام".. سالي منصور تفاجئ النادي بالاحتراف في الدوري السعودي    «أمرها متروك لله».. شيخ الأزهر: لا يجوز المفاضلة بين الأنبياء أو الرسالات الإلهية (فيديو)    حصر نواقص الأدوية والمستلزمات الطبية بمستشفى أبوتشت المركزي بقنا لتوفيرها    هيئة الدواء: ضخ 133 مليون عبوة دواء في الصيدليات    المشاط: الشراكات متعددة الأطراف عنصر أساسي للتغلب على كورونا وإعادة بناء الاستقرار الاقتصادي    استمرار عمليات الإجلاء في وسط أوروبا بسبب العاصفة "بوريس"    وزير الري: ما حدث بمدينة درنة الليبية درسًا قاسيًا لتأثير التغيرات المناخية    وحدة الرسالة الإلهية.. شيخ الأزهر يؤكد عدم جواز المفاضلة بين الأنبياء    محافظ الدقهلية يفتتح تجديدات مدرسة عمر بن عبدالعزيز بالمنصورة بتكلفة 2.5 مليون جنيه    تقي من السكري- 7 فواكه تناولها يوميًا    أبرز مجازر الاحتلال في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر    أحد الحضور يقاطع كلمة السيسي خلال احتفالية المولد النبوى (فيديو)    كيف يغير بيان مدريد موازين القوى.. جهود الحكومة المصرية في حشد الدعم الدولي لحل النزاع الفلسطيني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كريم بدر: أكتشف المدينة بعيون محفوظ| حوار
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 08 - 09 - 2024

كان لنشأته داخل حى مصر الجديدة فى ثمانينيات القرن الماضى الفضل الأكبر فى تعلقه بتراث القاهرة. حياة المصور الفوتوغرافى والباحث فى التراث كريم بدر كانت كحال أغلب الأطفال؛ المدرسة صباحًا، والنادى مساءً، وبعض اللقاءات العائلية فى أيام الإجازات الأسبوعية.
إلا أن رحلته اليومية بأتوبيس المدرسة من منطقة ميدان سانت فاتيما، وصولًا لميدان صلاح الدين شكلت جزءًا كبيرًا من هويته. ألهمته الرحلة اليومية، وجعلته يدرك القيم المعمارية الجميلة التى تحملها المنطقة.
ويقول: كنت أتعرض يوميًا لكم كبير من الفنون البصرية؛ لذلك تأثرت بالطابع المعمارى العام للمدينة. صحيح أننى لم أملك ثقافة كافية تجعلنى قادرًا على فهم أسباب تفرد هذا النوع من العمران لكننى كنت معجبًا به دائمًا، وساعدنى ارتباطى بالسينما على تذوق الفنون البصرية فيما بعد. وصحيح أيضًا أن جزءًا من الموضوع متعلق بالموهبة، لكننى فى النهاية أعتبر أن المدينة طورتنى وجعلتنى قادرًا على تذوق مختلف الفنون.
يعتبر المصور الفوتوغرافى والباحث فى التراث كريم بدر أحد أبرز مصورى مدينة القاهرة، المدينة التى لطالما كانت قادرة على إبهاره. نتحدث معه عن مشروعه فى توثيق تراث المدينة، وعن كتاباته التى قدمها مؤخرًا. نتعرف عن رحلته مع الكاميرا التى يصفها ويقول: «الكاميرا دائمًا هى الرفيق الأول بالنسبة إليّ فى رحلة البحث عن المعرفة».
الترام ورحلة استكشاف المدينة
تخرج فى كلية الهندسة، قسم الميكانيكا. لكنه قررَّ فجأة التوقف عن ممارستها «الهندسة أثرت فيّ كثيرًا، جعلتنى أدرك طبيعة الأشياء وأتذوقها. ورغم أننى تركتها لكننى أعتبرها بمثابة «لايف ستايل»؛ أى أسلوب حياة.
تركتها ببساطة لأننى أردت تحقيق ذاتى وتنمية هواياتى التى أحبها، وتحقيق ذاتى فى مجال الثقافة، والتراث، والتصوير. أتذكر مثلًا أن علاقتى بالتصوير بدأت خلال إحدى الرحلات المدرسية.
وكنت فى الصف الخامس الابتدائى، وأعطانى والدى الكاميرا الخاصة به، واصطبحتها معى إلى «القرية الفرعونية». وهنا كانت بدايتى الفعلية مع التصوير.
اشتريت فى المرحلة الثانوية الكاميرا الخاصة بى، وبدأت قراءة بعض المجلات الأجنبية المتعلقة بالتصوير، وتعرفت على تكوينات الصور. وبالتوازى مع تعلمى التصوير اكتشفت عوالم جديدة، كالذهاب مثلًا لمنطقة وسط البلد وحضور الحفلات الموسيقية داخل دار الأوبرا.
هذا العالم الجديد الذى اكتشفته كان لترام مصر الجديدة الفضل فيه، إذ سهل عليَّ عملية الانتقال بين منطقة وسط البلد، ومصر الجديدة. أتذكر ذهابى لميدان التحرير بواسطة الترام، ثم انتقالى للتصوير بالكاميرا داخل ميدان طلعت حرب. كان ذلك فى نهاية تسعينيات القرن الماضى.
بعد تخرجه من الكلية وفى بداية الألفينيات نشط كريم داخل الأندية الثقافية، وبدأ معهم تجربة التمشية داخل القاهرة التاريخية. «كنا نتواصل كأعضاء على جروبات ال«ياهو»، أعدت اكتشاف نفسى وقتها وتعرفت على المصورين المحترفين.
واشتريت كاميرا ديجيتال واستفدت من الثورة الكبيرة التى أضافها الإنترنت. قمت مثلًا من خلاله بعمليات بحث لتعلم التصوير بشكل احترافى». طاف كريم وقتها أغلب المدن المصرية.
وظلت عيناه متجهة دائمًا نحو المعمار والطرز الفنية المختلفة التى خلقتها المدن. لكن اهتمامه بعمارة القاهرة القديمة كان مختلفًا، أطلَّ على المدينة وأدرك قيمتها للمرة الأولى حين حضر جنازة نجيب محفوظ. قررَّ الذهاب كحال الكثيرين لتوديع محفوظ من مسجد الحسين.
كانت المرة الأولى التى يذهب للمنطقة صباحًا. وبعد الجنازة مباشرة تجول داخل المنطقة وكأنه يتحسسها للمرة الأولى. توالت الزيارات بعدها كثيرًا وبدأ يشاهد المدينة بعيون روايات محفوظ، وقارن بين الأماكن التى وصفها فى أعماله.
الاهتمام بالمسألة البصرية
أخذت المدينة بعد ذلك حيزًا كبيرًا من اهتمامه. افتتن بتفاصيلها. واعتبر أن التصوير داخلها «رحلة ممتددة». يقول: عندما ترددت على المدينة التاريخية بدأت أغرق فى تفاصيلها، كنت مفتونًا بالعلاقات التى خلقتها.
وبدأت أربط مثلًا بين العلاقات المتنوعة التى خلقها شارع مثل المعز، والدرب الأحمر، ومحمد علىّ. والعلاقة بين الآثار الفاطمية، والمملوكية. وانبهرت بتفاصيل المآذن بصورة كبيرة. وتحول التصوير عندى وقتها ل«رحلة فنية».
لكننى لم أفكر فى توثيق المدينة، كان ذلك بين عام 2006 و2009. تعرفت على مصورين كبار وتعلمت منهم وتأثرت بهم. مثل: المصور الراحل هانى الزهرانى، وياسر علوان، وبولس إسحق. كنت مهتمًا بتنمية الثقافة البصرية لديَّ، هذه الثقافة غالبًا تأتى من المشاهدات الكثيرة لأعمال المصورين، وتدريب العين، ومتابعة معارض الفن التشكيلى التى تساهم بشكل كبير فى تكوين خيال المصور.
عقب ثورة يناير 2011 اهتم كريم بالمسألة البصرية؛ كالفن التشكيلى، والتذوق الفنى، والمدارس الفنية. لاحظ مثلًا أن هناك تحولات بصرية بدأت تحدث داخل المدن وعلى شاشات التلفزيون. كالاستعانة بالوشوش المصرية الأصيلة وتقديمها فى إعلانات تجارية تحمل وشوش أهل النوبة، والصعيد، ومحافظات الدلتا.
تنامى عنده فى هذه الفترة الشعور بالانتماء للمكان، وأراد أن يكون له دورًا فاعلًا فى قضايا التراث والتوثيق، والعمل فى هذا المجال بشكل احترافى، «لم أدرك لحظتها فكرة أن التراث المصرى مهدد بصورة ما، لكننى أدركت أن هذا الشغف يحتاج للتطوير بشكل علمى».
عرف كريم فى هذه الفترة أن الجامعة الفرنسية بالقاهرة وجامعة السوربون فى باريس قد فتحتا برنامجًا لدراسة الماجستير وكان البرنامج حول التراث الثقافى. تغيرت حياته للأبد -على حد وصفه- نتيجة التحاقه بالبرنامج، وتحول من شخص ممارس للتراث وهاوٍ له، إلى شخص يدرك ويعرف القيم التى يحملها التراث المصرى.
ويقول: نظمت الدراسة تفكيرى ومعلوماتى، وساعدنى الأساتذة كثيرًا مثل: الدكتور فكرى حسن، والدكتورة جليلة القاضى، والدكتور أحمد مرسي، والدكتورة دينا بخوم، والدكتور طارق سويلم، وطارق المرى وغيرهم.
مؤخرًا نشر كريم بدر رسالته للماجستير فى كتاب بعنوان: CULTURE HERITAGE & ART IN MODERN EGYPT. . يحكى مثلًا أن رسالته كانت نابعة أصلًا من رغبته فى التخصص فى علم إدارة المتاحف. يقول: بدأت أتساءل حول أسباب خفوت الأضواء عن متاحف الفن التشكيلى مقارنة بمتاحف الآثار، وهذا بالفعل ما تناولته فى رسالتى عبر التأصيل لفكرة مفادها أن الحركة التشكيلية المصرية لم تنفصل أبدًا عن التراث، والواقع المصرى الثقافي. هذه الحركة التى بدأت فى بدايات القرن ال20. وناقشت الأمر من خلال عدة موضوعات. مثل: علاقة الفن بفكرة القومية، إذ ظهر الفن وقتها كتعبير عن الانتفاضة الشعبية فى ثورة 1919.
وتناولت أيضًا الفن والخطاب القومى من خلال عمل مقارنات بين أعمال محمود مختار وجمال السجيمى فى مسألة الفن والوعى القومي. وتناولت علاقة الفن بالحياة اليومية إذ ركزت الحركة التشكيلية على توثيق المجتمعات المصرية كأعمال محمد ناجي، وإنجى أفلاطون، وسعد الخادم، وعفت ناجى وغيرهم. وناقشت علاقة الفن بالحراك السياسى فى أعمال رمسيس يونان وعبد الهادى الجزار.
تركيزى كان مبنيًا على فهم العلاقة التى تتمحور حول فكرة استلهام الفنانين التشكيليين للتراث المصرى القديم. وإعادة تقديمه مرة أخرى من خلال الفن المصرى المعاصر، والذى ارتبط بدوره بالحراك الاجتماعي.
ومن خلال التأصيل الذى قدمته حول قيم التراث المصرى، بدأت مناقشة مشكلات الفن، من خلال تحليل وتقديم إحصائيات مع مديرى المتاحف وأصحاب الجاليرهات، وأيضًا فنانى الجرافيتي، هؤلاء الذين استلهموا التراث المصرى فى إنتاج أعمالهم.
وناقشت فى النهاية الرسالة فى جامعة السوربون، وكانت تحت إشراف أستاذى فكرى حسن، الذى أعتبره الأب الروحى بالنسبة إليَّ. ونشرتها مؤخرًا لأننى أردت أن يستفيد منها المجتمع العلمي.
محاولة إظهار التفاصيل
حين يمسك كريم بكاميراته ليلتقط الصور تراوده الكثير من الأفكار فهو شخص محب للتفاصيل لحد بعيد. يقول: حين ألتقط الكاميرا وأصور المآذن، والكتابات، والنصوص الكتابية، والمقرنصات. أدرك أننى أمام عمارة متفردة؛ أى عمارة لا تشبه بعضها البعض. عمارة لديها تنوع شديد، نتيجة لتطور الفنون داخلها. لكن يهمنى إظهار التفاصيل، والعلاقات، ففكرة العلاقات تظهر بشكل واضح فى بانورامات المآذن الموجودة داخل القاهرة، وقد ركزت لسنوات على هذه الجزئية. فالتصوير البانورامى للمدينة وخصوصًا من ارتفاعات عالية، يعطى لنّا قدر من التفاصيل، ويكشف عن العلاقات بين المباني، والطبقات التاريخية. فهذه التفاصيل المعمارية لم تُنشأها الصدفة، لكنها ظهرت لأسباب معينة.
وهذه الأسباب تعرفت عليها بفضل الدراسة والبحث وأيضًا النقاشات المستمرة مع الأساتذة المتخصصين فى هذا المجال، كطارق سويلم، وهانى حمزة، ونللى حنا، ونزار الصياد، وحسام إسماعيل، ومى الإبراشي. فأنا أرى أن ارتكازنا أساسًا يجب أن يكون مبنيًا على المصادر التاريخية، والدراسات المعاصرة مثل كتابات دوريس أبو سيف وغيرها.
ورغم تنوع عناصر المدينة إلا أنها مرتبطة ببعضها البعض. بدءًا من القاهرة الفاطمية وصولًا للقاهرة الخديوية والملكية. فعملية التكوين العمرانى داخل حيز المدينة يدفعنا مثلًا للتساؤل حول التغيرات التاريخية التى حدثت فى الميادين العامة كميدان القلعة، وطلعت حرب، والتحرير، ومثل هذه الأمور عادة ما تطرح أسئلة مستمرة لديَّ. أتساءل عن أسباب حدوث هذه التغيرات الجوهرية داخل المدينة على مر العصور.
فهذا هو البعد الأفقى للمسألة. أما البعد الرأسى فأنا أحب اقتناء الأشياء لكننى دائمًا أتساءل وأقول: كيف يمكننى أن أقتنى شيئًا من جامع مثل السلطان حسن؟ فهذا أمر مستحيل حدوثه على أرض الواقع؛ لذلك ساعدتنى الكاميرا لأننى شعرت من خلالها أننى قادرًا على اقتناء مثل هذه الأشياء بالصور، وهذا الاقتناء يعنى أننى فى كل مرة أذهب لتصوير المسجد يجب أن تخرج الكاميرا مزيدًا من التفاصيل التى لم أصل إليها فى المرَّات السابقة.
باطن المدينة وظاهرها
سألناه لماذا القاهرة تحديدًا؟ ورد: فى إحدى المرات تحدثت مع المخرج الراحل يوسف شاهين وسألته نفس السؤال وقلت له لماذا الإسكندرية؟ فقال لي: «لمّا تقابل الناس لازم يكون عندك حاجة تقولها لهم عنك وعن الحتة اللى جيت منها».
وأعتقد أننى تأثرت بما قاله لى لأننى رأيت ما طرحه يتلاقى مع شغفى فى حب الاستكشاف، وأظن أننى لهذا السبب أردت تقديم القاهرة، لأننى أحببتها دائمًا، وأشعر أن داخلها قدر كبير من الحميمية والغموض عبر الأسئلة الكثيرة التى تطرحها عليّ، لكننى فى النهاية لا أملك إجابة محددة عن أسباب تعلقى بالمدينة، لأننى أصلًا أطرح على نفسى دائمًا الأسئلة لا الأجوبة. وبصفة عامة أنا محب لاستكشاف المدن. زرت روما، وفلورانسا، وبيروت، وبيبلوس، وجايبور بالهند، وغيرها من المدن.
ولكن أرى أن علاقتى بالقاهرة خلقت لديّ ما يشبه المنهجية فى استكشاف المدن والبحث عن أسرارها. فكل مدينة داخلها ظاهر وباطن. هذا الظاهر هو ما يتضح لنا عندما نزور المعالم السياحية داخل المدن. لكن باطنها يظهر خلال التمشية فى الشوارع والاستماع لقصص وحواديت الناس العاديين. والاقتراب من تفاصيلها التى لا يعرفها أحد. وهذا الأمر يتحقق بالشغف، والدراسة، والمنهجية فى حب واستكشاف المدن التاريخية ذات الطبقات المتنوعة.
يرى كريم أن التغيرات التى تحدث داخل حيز القاهرة لا يمكن أبدًا أن تغير من خصوصيتها، إذ يعتبر أن التغيير يحدث بشكل مستمر فى كل العصور، يقول: صحيح التغيرات التى تحدث حاليًا سريعة مقارنة بما حدث فى العصور السابقة، لكننى أظن أن ذلك يحدث بسبب طبيعة العصر الذى نعيشه الآن، فكل الأشياء حولنا أصبحت سريعة. وعادة ما أقوم بعمل مقارنات بين الأماكن التى صورتها فى الماضى وبين شكلها الحالي.
وهناك أماكن ندمت لأننى لم أصورها كترام مصر الجديدة، ومنطقة عرب آل يسار أسفل قلعة صلاح الدين. فأنا أبحث دائمًا عن الجواهر الخفية، ولديّ تعلق عاطفى ب«الكيانات المتحللة» لكن بشكل عام فتحديث القاهرة بشكل سريع خلال الفترة الأخيرة جعلنى أسرع من عملية التوثيق والتصوير خوفًا من اختفاء هذه المعالم فى أى لحظة.
رحلة التصوير البانورامى
مؤخرًا صدر كتاب بعنوان «القاهرة مؤرخة»، وهو من إعداد الدكتور نزار الصياد أستاذ التخطيط العمرانى وتاريخ المدن بجامعة كاليفورنيا بيركلى.
شارك كريم فى الكتاب بفصل حمل اسم «أفق القاهرة». يقول كريم عنه: أردت تقديم صورة للقاهرة بشكل معاصر. طلب منى الدكتور نزار فصلًا مصورًا عن المدينة، وهنا بدأت أفكر فى شكل المشروع الذى من خلاله يمكننى التعبير عن المدينة. وقتها قررت الاتجاه ناحية التصوير البانورامى، والعلاقات التى يخلقها هذا النوع؛ لذلك فكرت فى تقديم القاهرة عبر سلسلة من البانورامات التى خلقتها المدينة خلال العصور المختلفة.
كانت الفكرة الأساسية مبنية على إظهار مكان ما كبطل رئيسى تنطلق منه الصورة، ثم يظهر فى الصورة التالية لكنه يأتى فى خلفية الصورة؛ أى يصبح ثانويًا. أردت جعل القارئ فى نهاية الأمر وكأنه يدور بشكل بانورامى حول المدينة.
وكان الهدف من الأمر فهم الواقع المعاصر للقاهرة، وحالتها العمرانية، وفهم العلاقات داخلها. هذه المدينة التى عرفت فى العصور الوسطى بمدينة الألف مئذنة. بالتأكيد حدث لها تغيرات كثيرة، مثل: التطور الكبير فى التكنولوجيا، الذى ظهر نتيجة لتغير العصور، والأفكار، والنظم السياسية، والاجتماعية، والثقافية.
يعتبر كريم أن توصيف مدينة القاهرة بمصطلح «مدينة الألف مئذنة» أمر غير دقيق تمامًا إذ يعتبره مصطلحًا سياحيًا بشكل أكبر. يقول: رغم المبانى الخرسانية الحديثة العالية داخل حيز المدينة، إلا أنها لم تستطع حجب الرؤية عن المآذن العظيمة داخل القاهرة، وهذا يدل أيضًا على قدرة المآذن على الاستمرارية وتحدى الظروف الصعبة التى تعيشها.
فالقاهرة المعاصرة يمكن أن نطلق عليها أيضًا قاهرة الألف مئذنة، لكن هذا يردنا لسؤال مهم، وهو: هل نعت القاهرة بوصفها مدينة الألف مئذنة سيضطرنا لربطها مرة أخرى بعمارة المساجد كما حدث فى القرون الوسطى أم سيتم ربطها بمدينة القاهرة الحديثة؟ صحيح أن عمارة المساجد موجودة حتى هذه اللحظة لكن لم تعد المساجد تستخدم كمدارس كما كان يحدث من قبل؛ إذن فالوظيفة اختلفت بشكل كامل. لكنها لا تزال من الناحية الثقافية، والسياحية مدينة الألف مأذنة.
فالقاهرة التاريخية مدينة حية كما كانت منذ نشأتها، وتحتفظ بالحرف اليدوية الموجودة داخلها منذ مئات السنين. بجانب الذاكرة الأدبية والفنية للمدينة، والتى جرى تداولها فى كتابات الرحالة الأوائل فى العصور الوسطى، وأيضًا الأعمال الفنية، والتشكيلية والسينمائية التى وثقت لها بقدر كبير.
وبجانب الأدباء الذين تركوا تأثيرًا كبيرًا عليها مثل الأديب الفرنسى جيرار دى نرفال، والذى كتب عنها أثناء تواجد الحملة الفرنسية فى مصر، وأيضًا من خلال كتابات ألبير قصيري، ونجيب محفوظ، والغيطاني، وإسماعيل ولى الدين وغيرهم من الأدباء. فهذه المدينة لا تعبر فقط عن تاريخ القرون الوسطى، ولم تعد مجرد معلم سياحي، لكنها مدينة قادرة على التجدد دائمًا.
تجارب متنوعة
عادة ينزعج كريم من تقديمه بشكل مستمر باعتباره مصورًا فوتوغرافيًا، إذ يعتبر أن السبب فى ذلك ربما يعود لإظهار أعماله الفوتوغرافية بشكل أكبر من أعماله كباحث فى التراث الثقافى للمدينة. ففى السنوات الأخيرة عمل مثلًا على مشروع «استكشاف الأصول التراثية لمدينة إسنا». يقول عنه: كانت تجربة ثرية بشكل كبير والهدف منه كان إعداد إسنا كمدينة سياحية متكاملة.
ومن خلال الحفاظ على تراثها، إسنا ملهمة لحد بعيد نظرًا لوجود طبقات تاريخية وثقافية مختلفة من عصور متنوعة، بجانب وجود حرف يدوية بداخلها مرتبطة بالمكان نفسه منذ مئات السنين، وقد بدأت حينها بالاهتمام بالعمارة الصعيدية التى أرى أنها متنوعة، وهناك تظهر الطرز القرن ال19 المعمارية والتى عادةً ما نطلق عليها اسم العمارة الأوروبية، كما تظهر طرز العمارة التقليدية فى الصعيد، ومن ضمنها العمارة الطينية، والخشبية، وهذا نلحظ بشكل واضح على واجهات وعتبات بيوت إسنا.
يسعى «بدر» فى السنوات المقبلة لاستمرار العمل على مدينة القاهرة، بجانب رغبته فى استكشاف المدن المصرية كبورسعيد، والمنيا التى قام بجولات داخلها، ومنها ظهرت صورة حارس مقبرة إخناتون، والتى تم تداولها على نطاق واسع فى العالم خصوصًا مع التشابه الكبير بين الرجل وبين الفرعون الراحل، لكنه بشكل عام لا يعتبرها الصورة الأفضل بالنسبة له.
كما يعمل على إصدار كتاب جماعى مع الدكتورة جليلة القاضى أستاذ التخطيط العمرانى بجامعات باريس، حول عمارة القرافة. وآخر عن منطقة وسط البلد رفقة الدكتور نزار الصياد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.