يشبه الأمر كتابة رواية تفاعلية، يفتتح أحدهم العمل فيها بافتتاحية مكثفة لكنها فى الوقت نفسه مكتنزة بمعلومات مثيرة قادرة على لفت الانتباه وعلى حث كتاب آخرين على الانضمام إلى اللعبة عبر البناء فوق المعلومات المقدمة أو معارضتها. هكذا بدأت الحكاية غير المعقولة للباحثة الراحلة ريم حامد فى مفارقة حقيقتها وواقعها الذى عاشته لتنضم إلى أبطال نموذجيين يُصنعون وفق متطلبات اللحظة وظروفها لاستخدامهم فى تحريك مسرح ضخم اسمه الحياة الافتراضية. منشور من حساب دارسة مصرية فى الخارج تنعى زميلة لها رحلت فى ظروف غامضة كان بمثابة الافتتاحية الناجحة للفصل الخاص بشخصية ريم حامد، وضعت الافتتاحية (المنشور) المقادير المطلوبة تمامًا لجذب رواة آخرين للمشاركة فى عملية السرد: شابة مصرية محجبة تدرس فى فرنسا علمًا يثير اسمه، واستخداماته، الخيال: (الجينوم). وفوق هذا فالطالبة التى ماتت فجأة كانت كمن تسبق كتابة قصتها بالتمهيد لها فتكتب على صفحتها الشخصية بالفيس بوك وقبل رحيلها بفترة قصيرة عن تعرضها لتهديدات واقتحام لمسكنها، ومحاولة جارة لها لتسميمها بطريقة غير مألوفة. تصعد القصة فى غضون ساعات إلى بؤرة الاهتمام الشعبي، يشير البحث فى الفيس بوك إلى اسمها بكونها (شعبية الآن). بالطبع لا بد أنها ستكون كذلك ولِمَ لا؟ ففيها تتوافر العناصر الملائمة للانشغال بها، فإضافة إلى ما سبق من معطيات تقدم الصفحة الشخصية لطالبة الدكتوراه الراحلة مشهيات أخرى بما تضمه من نزعة دينية، وهكذا فإن عناصر قصتها بأكملها تتضافر ليتحول الانشغال بها من مجرد الرغبة فى حل لغز رحيلها إلى واحدة من عمليات نموذجية تتم فى الواقع الافتراضى لبناء الشخصيات المتخيلة، وهى العمليات اللازمة لتمتين أسس الحياة الافتراضية إلى درجة معقدة لم يعد معها ثمة قدرة على التفرقة بينها وبين الواقعي، والأهم: أيهما يؤثر على الآخر ويتلاعب به! تقع قصة الطالبة الراحلة فى التوقيت الملائم لها، تستوفى كل الشروط الرمزية للتعبير عن الزمن الملتبس الذى جرت فيه وقائعها، ثمة موجات متلاحقة ومتدافعة من الغضب تتزايد نذرها فى العلاقة بين الطرفين اللذين تمثلهما حكايتها: الشرق والغرب، فقد كلاهما النظرة الكلاسيكية التى اعتادا النظر بها إلى بعضهما: الشرق موطن الفتنة والسحر، والغرب كمعيار للتقدم والتحضر، أحدهما لم يعد سوى إرهابى يرغب فى تدمير الحضارة والآخر محتل وإن غادرت جيوشه فقد زرع جسدًا دخيلًا، وكيلًا له يتم ما لم ينجزه! فى قصة ريم حامد يتداخل التاريخ والحاضر، الأسطورى والواقعى، العلم والخرافة، ريم تصبح سميرة موسى، يتكرر الأمر مجددًا، هذه الفرضية الأكثر انتشارًا وتداولًا، بالطبع ندرك أنه لا محل للمنطق فى عمل الرواة الشعبيين، ما أهمية التحليل المنطقى فيما نخلق أسطورة نحن فى حاجة إليها! وفق هذا تنتشر نظريات عن أبحاث كانت تقوم بها ريم على الجينوم البشرى تثبت بها أن الجينات المصرية غير مختلطة بالجينات اليهودية وأن هذا كان ردًا علميًا على من يزعمون أنهم من أهل مصر! ومن المفهوم تبعًا لهذه النظرية سبب اغتيال ريم. من الضرورى فى سياق بناء الشخصيات الافتراضية النموذجية ملاحظة أن الواقع غير مسموح له بالتواجد إلا بالدرجة التى تفيد فى تشييد هذا المعمار الوهمى وعليه فإنه لا قيمة لتأكيدات صحفية محايدة، أو متخصصين، تؤكد على أن طالبة الدكتوراه الراحلة ليس لها أبحاث على الإطلاق فى موضوع الأعراق هذا، بل وفوق هذا فإنه لا أبحاث معروفة لها فى المجال الأكاديمى، وهو ما من شأنه أن يسقط أيضًا النظرية الأخرى التى لا تقل انتشارًا عن السابقة القائلة باغتيالها لمنعها من الحصول على الخريطة الجينية لبعض الفيروسات! يستبعد المزاج العام للواقع الافتراضى ما يشاء ويقبل ما يتماشى مع السردية الكبرى الساعى لاستكمال ملامحها، لا قواعد على الإطلاق حتى وإن تعلق الأمر بمناشدات من عائلة الراحلة بالتوقف عن تداول معلومات مغلوطة قد تؤثر على سير التحقيقات الجارية الآن، سيتم الإشارة، صراحة وتلميحًا، إلى أن هذه المناشدات تدخل فى إطار التواطؤ لإخفاء ملامح الجريمة، هذا لأنه جرى خلال ساعات معدودة تصنيف ما جرى باعتباره اغتيالًا، حتى لو لم يكن كذلك، حتى إن كانت جهات التحقيق لم تنته بعد من فحص مسرح الجريمة، حتى ولو كانت الاتصالات بين الجهات المصرية والفرنسية قائمة لمعرفة الملابسات، كل هذا لا قيمة ولا ضرورة له، فعلى هذه الأرض الافتراضية ثمة تعريفات أخرى للحقائق، وعليها تتجسد الشخصيات الواقعية بأشكال مغايرة لحقيقتها. لكن رواة العالم الافتراضى لا يقتصرون فقط على المؤمنين بنظرية المؤامرة بل تتشعب التخصصات إلى آخرين يستندون إلى العقل لكنهم ينطلقون من الإيمان نفسه بحق الواقع الافتراضى فى إعادة تقديم الحياة وشخصياتها وفق رؤاه وأنه نحو تحقيق هذا الهدف فلا حق لأحد فى خصوصية ما حيًا كان أو ميتًا. والتحليل المبنى على العقل فى قصة ريم حامد ينفى بقوة فرضية الاغتيال ويقدم تفسيرًا ينطلق من التحليل النفسى، منهم من يجزم بأنها حالة بارانويا مكتملة الأركان، ومنهم القائل بأنها متلازمة السكيزوفرينيا (الفصام) تدور النقاشات بين الفريقين بمصطلحات علمية وبينهما وبين أصحاب المؤامرة، ومعهم جميعًا يحضر اليمين المتطرف الصاعد بقوة، والإسلاموفوبيا، والماسونية، وأبناؤنا فى الخارج، وحكاية الشرق والغرب، والشرطة الفرنسية، وكارل يونج، وإدوارد سعيد، وسميرة موسى ومصطفى مشرفة، وموسى وفرعون! لا يمكن النظر إلى المرويات حول ريم حامد بمعزل عما يجرى فى غزة، الرغبة العارمة فى التدمير والقتل يقابلها النزوع إلى تفكيك هذا العالم بقواعده التى لا يزال البعض يظنها مستقرة فى حين أنها ليست أكثر من هياكل كاذبة فى نظر الجمهور «العالم فى ذاته، والعالم خارج الذات لا وجود لهما إلا من خلال الدلالات التى يسقطها الفرد عليهما، وإن الإحساس بأنه هو هو، وأنه فريد، ومتماسك وأنه يقف على أرض صلبة، كل ذلك ليس إلا مجرد وهم شخص ينبغى للآخرين أن يدعموه على الدوام بحسن نية يزداد أو يقل..». هذا ما يقوله دافيد لوبرتون فى كتابه «اختفاء الذات عن نفسها» (ترجمة زكية البدور ومراجعة عبد السلام بنعبد العالى ومن إصدارات دار صفحة سبعة). إلى أى حد ينطبق مثال لوبرتون هذا على حالتنا الآن، هل يجوز الاستشهاد بمبحثه عن الذات عند الحديث عن لا واقعية الجمهور فى قضية ريم حامد! فى تقديرى أنه لا فرق، خلف هذا الحشد الضخم الذى يصنع المرويات البديلة الخاصة به على الواقع الافتراضى يمكن دومًا رؤية الذات التى تتلقى الضربات من العالم المحيط بها لكنها بدلًا من اختيار الاختفاء وفق ما يقدمه الكتاب من نماذج فإنها تتضامن مع الذوات الأخرى المهددة مثلها لتشكل آليات دفاع وفق ما نراه!