في مشهد سياسي يتسم بالتعقيد والتقلب، تبدو الاستراتيجية الدبلوماسية الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي كمن يحاول إخماد حريق بنفخة هواء، فمنذ هجمات طوفان الأقصى في أكتوبر الماضي، والمنطقة تغلي كمرجل على نار حامية، مع تصاعد وتيرة العنف وتزايد احتمالات اندلاع حرب إقليمية شاملة. إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تجد نفسها في مأزق حقيقي، فمنذ 327 يوما، لا تزال واشنطن تسعى جاهدة لتحقيق ثلاثية صعبة المنال، وهي ردع محور إيران، تحقيق اختراق دبلوماسي قبل الانتخابات الأمريكية في 5 نوفمبر، وإنهاء المأساة الإنسانية في غزة، إلا أن هذه الأهداف تصطدم بصخرة صلبة تتمثل في سياسات متطرفة ومتعطشة للدماء لبنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي. نتنياهو، الذي يبدو أنه خرج من تحت عباءة إدارة بايدن، يتصرف بعناد سياسي ملحوظ، فهو يدرك أن بقاءه في السلطة مرهون باستمرار حالة الحرب، وأن أي اتفاق سلام قد يطيح بائتلافه الحكومي الهش. وفي خطوة مثيرة للجدل، يبدو أن نتنياهو يحضر للارتماء في أحضان إدارة ترامب المحتملة، مراهناً على تغيير في البيت الأبيض قد يمنحه هامشاً أوسع للمناورة. هذا التحول في موقف نتنياهو يضع عراقيل كبيرة أمام الجهود الدبلوماسية الأمريكية، فوزير الخارجية أنتوني بلينكن، في زيارته التاسعة لإسرائيل، بدا كمن يحاول إمساك الدخان بيديه، إذ أن إعلانه عن قبول إسرائيل لمقترح أمريكي للتوفيق قوبل بتجاهل من نتنياهو، بل إن كبير المفاوضين الإسرائيليين رفض المشاركة في المحادثات، في إشارة واضحة إلى تصدع العلاقة بين واشنطن وتل أبيب. ومما يزيد الأمر تعقيداً، أن العلاقة بين بايدن ونتنياهو شهدت تحولاً دراماتيكياً، فبعد أن كان بايدن يدعم نتنياهو بشكل مطلق منذ بداية عملية "طوفان الأقصى"، أصبحت التسريبات من البيت الأبيض تكشف عن مكالمات حادة ومليئة بالصراخ بين الطرفين، مما يعكس حجم الخلاف المتزايد بينهما. في المقابل، يبرز الدور المصري كشعاع أمل وسط هذا الظلام الدامس، فمصر بموقعها الاستراتيجي وخبرتها الدبلوماسية العريقة، تقف في الخطوط الأمامية لجهود نزع فتيل الأزمة. الدبلوماسية المصرية تسعى بدأب لفتح قنوات الحوار بين الأطراف المتنازعة، وتقديم مبادرات لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. موقف مصر الثابت ضد تهجير الفلسطينيين، خاصة إلى سيناء، يشكل حائط صد أمام مخططات قد تزيد من معاناة الشعب الفلسطيني. لكن رغم هذه الجهود المصرية الحثيثة، تبقى المعضلة الأساسية قائمة، وهي عجز الولاياتالمتحدة عن لعب دور الوسيط النزيه، إذ أن رفضها أخذ مواقف حماس التفاوضية على محمل الجد، والتي تشمل مطالب مشروعة كالانسحاب الإسرائيلي الكامل ووقف إطلاق نار مستدام، يحكم على المحادثات بالفشل المتكرر، وهذا الموقف الأمريكي المنحاز يزيد من معاناة الشعب الفلسطيني ويقوض فرص السلام الحقيقي. إن الوضع الحالي يستدعي إعادة النظر في طريقة التعامل مع إسرائيل، فالضغط القانوني والسياسي والاقتصادي، وإعادة تقييم سياسات تزويد الأسلحة، قد تكون السبل الوحيدة لدفع إسرائيل نحو مسار السلام، ونتنياهو، الذي يتصرف بتهور سياسي ودموية هو وحكومته، لا ينبغي منحه المزيد من الدعم غير المشروط. في خضم هذه التطورات، يبدو أن حل الدولتين، الذي طالما نادى به المجتمع الدولي، يصبح يوماً بعد يوم أبعد منالاً، فالتوسع الاستيطاني المستمر والسياسات الإسرائيلية المتشددة تقوض بشكل منهجي إمكانية إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة. في خضم هذا المشهد المعقد، تبقى القضية الفلسطينية هي جوهر الصراع، إذ أن معاناة الشعب الفلسطيني، خاصة في غزة المحاصرة، تستمر دون هوادة، والحصار الخانق، والقصف العشوائي، وتدمير البنية التحتية، كلها جرائم تستوجب المساءلة الدولية، كما أن الصمود الفلسطيني في وجه هذه المحنة يجسد إرادة شعب يرفض الاستسلام لمنطق القوة والظلم. ختاماً، اقولها بصدق يبدو أن المنطقة تقف على مفترق طرق حاسم، فإما أن يستمر نهج التصعيد والعنف، مما قد يقود إلى كارثة إقليمية، أو أن تتضافر الجهود الدولية والإقليمية، بقيادة مصر ودول المنطقة، لفرض مسار سلمي يضمن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح الأن.. هل ستدرك الإدارة الأمريكية، قبل فوات الأوان، أن السلام الحقيقي والدائم لا يمكن أن يبنى على أساس الظلم والتحيز؟ إن مستقبل المنطقة بأسرها يتوقف على الإجابة عن هذا السؤال.