انتشرت حمى الزغاريد والرقص بعد الامتحانات وصدور النتيجة ونجاح الطلاب وهى مظاهر نفسية بسبب الثقافة الشعبوية الفوضوية السبت وصلت الجامعة من الصباح الباكر، دخلت مكتبى وأغلقت الباب على نفسى مستغلا هدوء الصيف وندرة الطلاب والأساتذة. بقيت وحدى فى عزلة ممتعة، أقرأ فى كتاب صدر حديثا عن جغرافية الآثار فى مصر القديمة، وحين شعرت بالجوع فى موعد الغداء خرجت طلبا للزاد وتركت خلفى الأوراق والقلم. فتحت باب الغرفة وهممت بالخروج فوجدته يجلس شاردا على مقعد أمام الغرفة، نحيل، منهك، متعب، أسمر. تردد فى أن يبارد بسؤالى فشجعته «هل تبحث عن شيء؟» أخبرنى أنه يريد مقابلة الأستاذ العظيم يوسف فايد.. قلت له نسأل الله له الشفاء، فقد أعطى للقسم والجامعة والطلاب الكثير وهو حاليا فى فترة راحة، ولا يتردد على القسم إلا نادرا. انتاب الحزن الرجل، ثم سألني: هل لى أن أقابل الدكتور صبرى محسوب، أو الدكتور محمود دياب، أو الدكتور أحمد إسماعيل، أو الدكتور محمد زهرة؟ قلت له: هؤلاء كانوا نجوم ولآلى قسم الجغرافيا، وقد خطفهم الموت بكل أسف فى سنوات متتابعة وتركنا من دون نورهم حيارى. صمت الرجل النحيل الأسمر وأخذ يغالب الارتباك والإحباط قطعت الموقف بحزم فسألته: هل درست هنا من قبل؟ أجابنى الرجل بأنه من أم درمان فى السودان، وقد حصل على الماجستير من جامعة القاهرة فى عام 1994 وأن كل هذه الأسماء التى ذكرها لها فضل عليه، ليس لأنه درس على أيديهم هنا فحسب، بل لأنهم أيضا كانوا يسافرون للتدريس إلى فرع جامعة القاهرة فى الخرطوم، وإلى جامعة أم درمان الإسلامية. قلت له: حسنا.. هذا جميل والله.. ولكن ما الذى أعاد إليك كل هذه الذكريات البعيدة؟ أجابنى : الحرب ! الحرب التى جاءت بى هنا، فجئت ألتمس بعضا من أطياف الأحبة! الإثنين قابلت صديقا وقد تهلل وجهه بعد عبوس دام أسابيع. وأصل الحكاية أن صديقى مر فى الأشهر الماضية بأزمة مالية سببها الارتفاع الكبير فى الأسعار وزيادة الأعباء الأسرية مع ضعف راتبه الحكومي. ولما سألته عن سبب بشاشته بعد تكدر، أجابنى بأن رزقا جاءه على غير انتظار. لقد طلب منه أحد أرباب دور النشر أن يرشح له خمسة من الباحثين شريطة أن يتحلوا بالجدية والالتزام بروح الفريق وسيمنح صديقى نظير ذلك مكافأة جيدة. اتصل الرجل بمجموعة من تلاميذه وأصدقائه الذين اشتركوا معه قبل سبع سنوات فى عمل ناجح. جاء الناس وشاركوا فى العمل الجديد، وكانوا يكنون له الاحترام والتقدير لأنه دوما ما كان يحفظ حقوقهم الأدبية والمالية. قلت لصديقى أنت تتلقى اليوم مكافأة على جهد قمت به قبل سبع سنوات مع فريق عمل قديم. والحقيقة أن ما حصلته اليوم من مكسب كان مدخرا لك فى شكل «رصيد من السمعة!» وهنا تذكرت عبارة لكاتب إنجليزى كنت قد ترجمتها فى واحد من الكتب التى نقلتها للعربية وكانت عن علاقة الأستاذ بالطالب. يقول المؤلف «إن سمعة المعلم فى المدرسة والجامعة تسير معه جنبا إلى جنب حيثما راح أو جاء، حتى إذا دخل قاعة الدرس سبقته بخطوتين أو ثلاث وجلست قبله فى المقعد أمام التلاميذ والطلاب»! ما أصعب بناء السمعة.. وما أصعب الاحتفاظ بها .. وما أكرم الله حين يكافئ الناس عليها. الثلاثاء ذهبت إلى الجامعة وقد باتت تشهد تقاليع غريبة، فقد انتشرت حمى الزغاريد والرقص بعد الامتحانات وصدور النتيجة ونجاح الطلاب وهى مظاهر نفسية بسبب الثقافة الشعبوية الفوضوية. ومن أسباب تلك التقاليع تسليع التعليم ونشر الجامعات الخاصة الذى سمح لأبناء الطبقة الغنية بالتعبير عن فرحتهم ورقصهم فى حفلات ورقصات وألوان مزركشة ومزخرفة. لم يكن هؤلاء الطلاب يشعرون أنهم يرتكبون شيئا خارجا على الأعراف، لأن الموضوع فى كثير من الجامعات الخاصة مسألة رأسمالية متوقفة على المصروفات الضخمة التى يدفعونها. قيام أبناء الجامعات الحكومية بالرقص والزغاريد فى حفلات التخرج هو محاكاة وتقليد للتعليم المتسلع الرأسمالي. وكانت هناك مرحلة انتقالية حين أدخلت الجامعات الحكومية برامج الساعات المعتمدة مدفوعة الأجر، ومن ثم دخل الجامعات الحكومية طلاب بمصروفات نقلوا سلوكيات هذا النوع من الخروج على الأعراف الجامعية. يستوقفنى فى هذه المشاهد أسباب الخروج على الأعراف: - فى حالة التعليم الخاص الرأسمالى غالبا ما يبتهج الطلاب لأنهم سيجدون فرصة عمل سهلة أو بدعم من الآباء الأثرياء. - لكن فى التعليم الحكومى عادة ما يبتهج الطلاب بالفكاك من أسر نظام تعليمى مرهق انعزالى وانفصالي، ورغم أنه لا يبدو أن هناك فرص عمل واعدة ومشجعة إلا أن مجرد النجاح هو إنهاء لمرحلة غريبة عن النظام التعليمى بمعناه الحقيقي. أين هو النظام الجامعى الحقيقي؟ القائم على الندوات والمناسبات الثقافية، والأنشطة الرياضية، أين المحاضرات العامة والفعاليات الجماعية البناءة، أصبحنا أسرى لظواهر مدرسية لا ترقى للجامعة: دروس ومذكرات وكتب وبابل شيت! فى الجامعات الأجنبية تقيم المؤسسة الجامعية نفسها حفلا فنيا من مطربين وعازفين وعازفات من الطلاب الموهوبين. يقوم هؤلاء بتقديم فقرات غنائية وفنية وعزف موسيقى ابتهاجا بحفل التخرج. هؤلاء أنفسهم من طلاب نفس الجامعة من هواة الفن، يجتمعون على مسرح فنى للجامعة. تأتى القناة الثقافية فى التليفزيون تصور الحفل، يحضر أولياء الأمور، ويحضر رئيس الجامعة، وبعض الأساتذة. أى أننا نريد أن نفصل بين مشهدين: - التعليم والأعراف والنواميس فى «الحرم» الجامعي. - والحفل الفنى المبتهج الذى مكانه المسرح الفنى الجامعى من ناحية أخرى.. فهنا يؤدى الموهبون عملا فنيا.. ويشاهد ويبتهج فى المقاعد آلاف الحضور من الطلاب وأولياء الأمور. أما الأفراح والليالى الملاح فمكانها الملاهى خارج الحرم الجامعي.