تتجه منطقة الشرق الأوسط نحو الفوضى العارمة بفعل مغامرات غير محسوبة من جانب دول دينية ليس لديها اعتراف بالحدود وتسعى لخدمة أهداف طوائف مختلفة، وتوظف التصاقها بالدين نحو تحقيق مصالح سياسية فاسدة، وذلك بعد عقود من غرس هذه الدول لبذور العنف التى ترتب عليها اتساع وتيرة الصراعات فى بؤر مختلفة وتقترب أخيراً من الوصول إلى حافة الحرب الإقليمية الموسعة انطلاقَا من شعارات لا تتماشى مع التطورات الحديثة بشأن تأسيس الدول ومواثيقها ومؤسساتها الوطنية. بالنظر إلى التاريخ فإن إقدام قيادات فى الحركة الصهيونية بتأسيس ما سُمى دولة إسرائيل على أراضى دولة فلسطين، التى جرى تسميتها فى تحوير لكلمة «يشرائيل» وهى التسمية العبرية لنبى الله يعقوب عليه السلام، وهى الدولة الوحيدة فى العالم المعاصر التى قامت على أساس دينى بوصفها «وطنا قوميا لليهود»، ومنذ ذلك الحين لم تشهد منطقة الشرق الأوسط حالة من الهدوء إذ إن ذلك اقترن ببدء الصراع العربي الإسرائيلي الذى ترك تأثيراته على مناطق عديدة وأدخل الدول العربية فى صراعات مختلفة مع كيان الاحتلال وصولاً إلى حرب السابع من أكتوبر فى العام الماضى التى تستمر حتى الآن. ■ جماعات دينية إيرانية جرى تأسيس الدولة اليهودية على مبدأ احتلال الأرض بمرجعيات دينية بالأساس اختلطت بها السياسية فى بعض الأحيان، وروجت الحركة الصهيونية لخطابات دينية ترسخ لأحقية احتلال فلسطين، ويتجلى ذلك بتصديق الكنيست الإسرائيلي في العاشر من مايو 2017 فى القراءة التمهيدية على ما يسمّى «القانون الأساسى: إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودى»، وتنشق المواطنة فى تلك الدولة من الانتماء للجماعة الدينية وليس على أساس الدولة، وهو ما يمنح قادتها المتطرفين الحاليين مبررات عدة لاستمرار الحرب الراهنة لتحقيق أهدافهم السياسية التى تُبعد عنهم تهم الفساد والتقصير وتمنحهم تأييداً من تيارات يهودية متطرفة تؤمن بمشروع إسرائيل التوسعى. بشكل مستمر يسعى قادة دولة الاحتلال إلى تنفيذ يهودية الدولة حتى يمكن إفراغها من الفلسطينيين، والعمل على قيام الصراعات الإقليمية فى المنطقة لإضعاف القوى العربية وحتى يمكن استكمال واستعادة أرض إسرائيل الكبرى، حسبما يدعون ذلك، وهو ما يمكن تفسيره من خلال إذكاء الصراعات العديدة بالدول العربية وظهور مخططات منها «الشرق الأوسط الكبير» و«صفقة القرن» وجميعها تصب في صالح الحفاظ على الدولة اليهودية التى تحاول أن تخلق وضعية شاذة لها بالمنطقة بالمقارنة بالدول الوطنية الراسخة التى لديها تاريخ طويل وتشكل قوة ثابتة على الأرض وفي مقدمتها مصر. ■ حزب الله ينخرط في الصراع ضد اسرائيل الوضع يبقى مماثلاً وإن كان بأوجه مختلفة بالنسبة للدولة الدينية فى إيران منذ أن اندلعت فيها الثورة الإيرانية الإسلامية فى نهاية سبعينيات القرن الماضى، التى حولت إيران من نظام ملكى، تحت حكم الشاه محمد رضا بهلوى واستبداله فى نهاية المطاف بالجمهورية الإسلامية عن طريق الاستفتاء فى ظل المرجع الدينى الشيعى آية الله روح الله الخمينى الذى أطلق فى ذلك الحين شعارات تصدير الثورة، لكن حدث تغيير تكتيكى دفع نحو رفع شعارات مقاومة إسرائيل لتحقيق عنصر الجذب المطلوب لبذور العنف التى زرعتها فى دول العراق واليمن ولبنان وسوريا. ◄ اقرأ أيضًا | الرئيس الفرنسي: على إيران التوقف عن الانتقام ◄ أهداف إيران ومنذ ذلك الحين اقترنت أيضًا أهداف إيران السياسية التوسعية بأهداف مماثلة لدى الشيعة وقامت بتنظيم ودعم جماعات مسلحة يهيمن على أعضائها الطوائف الشيعية فى الدول العربية، وقامت جميعها باسم مقاومة إسرائيل، غير أن الحراك الشعبى الذى طال العديد من الدول العربية فى العام 2011 كان كاشفا عن التوجهات الحقيقية لتلك الميليشيات التى انخرطت فى صراعات داخلية بهدف حماية مصالح إيران سواء كان ذلك بدعم أنظمة قريبة منها أو معاداة أخرى على خلاف معها، لتحاول إدخال تعديلات على أهداف هذه الجماعات تحت شعار «نصرة المستضعفين». ومنذ انطلاق طوفان الأقصى فى السابع من أكتوبر تحاول إيران تصويب صورتها الذهنية كداعمة لحركات المقاومة، لكن الواقع يشير إلى أنها قد تقدم خدمة ثمينة لإسرائيل سواء كانت تقصد ذلك أو لا تقصد، لأنها سوف تتيح لها الفرصة لأن تتغذى على الفوضى المحيطة بها فى المنطقة لتلقى دعمًا لوجستيًا ضخمًا من الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول الغربية الأخرى التى سوف تسعى جاهدة لضمان بقاء دولة إسرائيل، ودون أى اعتبارات لأبعاد الأمن القومى العربى الذى تضرر بفعل الانخراط فى صراع موسع يعرقل مساعى جهود استقراره. وأكد الدكتور محمد عباس ناجي، خبير الشئون الإيرانية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن إيران التى ترفع شعارات دينية وإيديولوجية هى دولة تتبنى سياسة براجماتية بما يتوافق مع مصالحها وحساباتها، بمعنى أن طهران التى ترفع شعارات نصرة المستضعفين لا تتحدث عن نصرة المسلمين «الإيجور» فى الصين، كما أن علاقتها بروسيا قوية رغم أن الأخيرة ارتكبت جرائم بحق المسلمين فى الشيشان، وأن مساعيها للحفاظ على نظام الحكم يدفع نحو الاعتماد على روسياوالصين كظهير لها فى مجلس الأمن وتتراجع شعارات «نصرة المستضعفين»، وهى الشعارات التى أنتجت مشكلات كبيرة للدول العربية بعد أن اتخذتها إيران ذريعة للتدخل فى شئونها. ■ ضربة إيرانية على اسرائيل ◄ حل الدولتين يعتبر ناجى أن إيران تضر بالقضية الفلسطينية أكثر مما تخدمها، لأنها لا تعترف بفكرة حل الدولتين الذى يشكل أساس السلام فى منطقة الشرق الأوسط، وهى لديها رؤى تتحدث عن استفتاء المواطنين الموجودين على أرض فلسطين، كما أنها توظف حركات المقاومة الفلسطينية فى إدارة صراعها مع إسرائيل التى لديها خلافات كبيرة بشأن البرنامج النووى وبرنامجها الصاروخى، وأشار إلى أن إيران لا تضع باعتبارها فى الأساس تقسيم الدول العربية لكنها تبحث بالأساس عن توسيع نفوذها، إذ إنها لا تبحث عن دولة شيعية فى العراق مثلاً لأنه فى ذلك الحين سوف ينتقل الثقل الشيعى إليها، كما أن نفوذ حزب الله فى لبنان مثلاً يقوض الدولة الوطنية هناك ويخلق وضعية سياسية تخدم المصالح الإيرانية ويعرقل أى مساعٍ من شأنها الإضرار بمصالحها. وأوضح ناجى أن الدولة الدينية تعد أساسًا للصراعات المشتعلة بالمنطقة لأنها لا تعترف بحدود الدول الوطنية، كما أن إيران لا تعترف بأن الخلافة محصورة فى حدود أراضيها وفى أى من البؤر التى لديها فيها نفوذ شيعى يمكن أن تأتى منها وهو ما يضرب نموذج الدولة الوطنية فى الصميم، كما أنها تعتبر أن المرشد هو ولى أمر المسلمين فى العالم، وهو ما يعنى عدم التزامه بالحدود ولذلك فإنه ليس من معايير اختيار المرشد أن يكون إيرانى الجنسية، ومن ثم فإن ذلك يضرب فكرة دولة المؤسسات التى تعد عنصر الاستقرار فى أى منطقة لأنه فى تلك الحالة تبقى القوة الفاعلة بيد الدولة ومؤسساتها وليس بيد جماعات تخلق حروبًا دينية بين الحين والآخر، وهو الأمر ذاته الذى ينطبق على الدولة اليهودية. ◄ المنطق الديني وأشار الباحث والمحلل السياسى الفلسطينى، أكرم عطا الله، أن المنطق الدينى فى الصراع يرفض الآخر، وهو ما يلفت النظر إلى أن إسرائيل هى الأكثر عنفًا وإقصاءً للآخر، وكان أمام إسرائيل العلمانية فرصة للتعايش فى المنطقة لكنها اتجهت خلال العقود الأخيرة إلى دينية مفرطة تغرق أكثر فى النصوص وتعبر عن نفسها فى بعدها السياسى، بما فيها أهداف السيطرة على الضفة الغربية وأن وصول قوى دينية إلى السلطة فى إسرائيل يعنى مواصلة الحرب فى المنطقة، وشدد على أن إقامة دولة إسرائيل على فكرة دينية تتعلق بوعد عدد من مواطنى أوروبا من أصحاب الديانة اليهودية بأرض لهم فى فلسطين وفقًا لما جاء فى سفر التكوين تجعل من القتال الدائر بين إسرائيل وأىٍ من القوى أو الدول التى دخلت معها فى صراعات بالمنطقة قائمة على أساس دينى، ورغم أن مؤسسى الدولة من العلمانيين كانوا يرون بأن الحاخامات يجب أن يتم حصرهم فى المعابد ولا يسمح لهم بممارسة السياسة غير أنهم هم من يديرون السياسة الآن. ◄ قوى صاعدة وأكدت الباحثة فى الشئون الدولية، إيمان زهران، أن كلًا من النظامين الإسرائيلى والإيرانى له مشروعاته التوسعية بالإقليم فضلًا عن رؤيته كقوى صاعدة بالمنطقة، دون إغفال الأدوات العسكرية والنوعية التى يمتلكها كلا الطرفين فى إدارة النزاعات، وعليه، فثمة مشاهد تفاعلية تُعيد ترسيم المشهد الصراعى بالمنطقة، أبرزها: هجوم طهران المباشر على إسرائيل فى 14 أبريل، والانتقال من النمط الكامن عبر الوكلاء والأذرع بالمنطقة فى ظل ما عُرف ب«حروب الظل» منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979، إلى النمط المباشر وفقاً لما اتضح بخريطة مراكز إطلاق الضربات الإيرانية، ليُصبح الرهان المُقبل حول مدى جدية التصعيد القائم للانتقال بالمنطقة نحو احتمالات تجاوز قاعدة «ما دون الحرب الشاملة» من عدمه.