عاطف محمد عبد المجيد قلتُ له: إن جابرييل جارسيا ماركيز اتصل بى فى وسط الليل، معتذرًا لفرق التوقيت، ليطمئن على صحتك، فقال: من أين اتصل؟ ، قلت: من منزله فى لوس أنجليس، فهو يتنقل طوال السنة ما بين منزله فى كولومبيا، ومنزل ثانٍ له فى الولاياتالمتحدة، وثالث بالمكسيك. هذا ما يقوله الكاتب محمد سلماوى فى سرديته التوثيقية «المحطة الأخيرة»، الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن أعماله السردية الكاملة، وفيها يحكى الكاتب عن علاقته بنجيب محفوظ وعن مرضه الأخير الذى أدخله المستشفى، ومنها نعرف أن نجيب محفوظ ليس ممن يتذمرون من المرض على الإطلاق، بل يكفى أن يتبع المريض تعلميات الطبيب وأن يكون مطيعًا له، ولن يشعر بأى ضيق من المرض. وعن سبب اختيار نجيب محفوظ لمحمد سلماوى ليُجرى معه حوارًا أسبوعيًّا يُنشر فى الأهرام، يقول الكاتب: لقد سألته آنذاك عن سبب اختياره لي، فقال: لأنك مختلف عني، فأنا ابن ثورة 1919، وأنت تنتمى لجيل ثورة 1952. أنا كاتب روائي، وأنت كاتب مسرحي، أنا اشتهرت بالأسلوب الواقعى فى الأدب، وأنت تميل إلى مسرح العبث، لذلك فالحوار بيننا سيكون ثريًّا، أنا لا أريد شخصًا يتفق معى فى كل شيء، وكل ما أقوله له يرد عليه بآمين! هنا يحكى سلماوى عن صباح الأحد الذى تعثر فيه الأستاذ فى غرفة نومه ووقع على الأرض، فأصيب بجرح غائر فى مؤخرة رأسه، وتم نقله إلى مستشفى الشرطة الملاصق لمنزله، حيث تم عمل بعض الغُرز الجراحية لخياطة الجرح، كما يذكر الكاتب أن الرئيس مبارك كان من أول المتصلين للاطمئنان على صحة الأستاذ، وكذلك رئيس الوزراء أحمد نظيف وقتها، وكذلك عدد من كبار الكتاب والمبدعين. مهارة أدبية سلماوى يقول هنا أيضًا إن أديبنا الكبير رغم ما كان يمثله من مهارة أدبية واقتدار، ورغم ما كنا ننبهر وينبهر العالم معنا بكل ما تخطه يده من أعمال، إلا أنه ظل حتى النهاية حريصًا على سماع رأى الناس فى ما يكتب وكأنه كاتب مبتدئ يقوم بمحاولاته الأولى، ويريد أن يطمئن إلى رأى الآخرين فى ما يقوم به! كذلك يضيف سلماوي، قاصدًا أحلام فترة النقاهة، أنه من شدة تواضع نجيب محفوظ أنه حين بدأ يكتب هذه الأحلام، وكان أحد زائريه يسأله عما يكتب الآن، كان يقول، وهو يشير بيده: أكتب أشياء صغيرة هكذا فى حجم الكف! وكنت أقول له: إن بعض ما هو فى حجم الكف يقتل مائة وألف! فيضحك دون أن يعلق. أيضًا يتذكر محمد سلماوى هنا ما قاله الكاتب الفرنسى الكبير روبير سوليه: أنت الحكّاء الأكبر الآن فى العالم، ولقد أثرت، ليس فقط على القراء، إنما أيضًا على الكُتاب، كما يتذكر الشاعر الأمريكى لابان كاريك هيل وهو يروى له كيف أن رواية «الطريق» التى كتبها محفوظ عام 1964 وترجمت إلى الإنجليزية عام 1987، أى قبل فوزه بجائزة نوبل، قد غيرت مجرى حياته، كما يذكر أن مدير النشر فى دار لو روشيه الفرنسية جاءه يقول إنه قرأ فى الأهرام إبدو الترجمة الفرنسية لأحلام فترة النقاهة، وإنه لم يقرأ لها مثيلًا من قبل، ويطلب منه حق إصدارها فى كتاب فى فرنسا، فى الوقت الذى لم تكن قد صدرت بعد فى كتاب باللغة العربية. محمد سلماوى يحكى هنا فى محطته الأخيرة أن الأستاذ لم يكن مدمنًا على أى شيء، حتى القهوة التى كان يحب أن يبدأ بها يومه لم يكن يتناول منها إلا رشفة أو اثنتين، ثم يضع الطبق فوق الفنجان ولا يقربها ثانية. أو قل، يقول الكاتب، إنه كان مدمنًا على النظام، فإذا تعوّد على شيء سار عليه دون تعديل أو تبديل. رجل عملاق هنا أيضًا نعرف أن محفوظ الذى لم يكن له مكتب خاص به فى الأهرام، وبعد فوزه بنوبل أُعطى مكتب توفيق الحكيم، ظل يجلس فى هذا المكتب على الأريكة التى كان يجلس عليها حين كان يأتى لزيارة الحكيم، ولم يجلس على مكتب الحكيم ولا مرة واحدة طوال حياته! هو نفسه محفوظ الذى قرر أن يتبنى جميع أبناء وطنه عوضًا عن ابنه الذى فقده جنينًا، وكثيرًا ما كان يسعى فى مساعدة كثيرين إذا ما عرف أنهم بحاجة إليه. وتعليقًا على رد فعل نجيب محفوظ على بروفة المجموعة القصصية التى أهداها إليه فقرأها ودوّن ملاحظاته عليها قائلًا له: سمحت لنفسى أن أكتب لك بعض الاقتراحات على هذا النص، لكنى كتبتها بقلم الرصاص، فإذا لم تعجبك فبإمكانك أن تمحوها بالأستيكة.. المخلص نجيب محفوظ، يقول سلماوي: من ذا الذى يجرؤ على محو شيء كتبته يد نجيب محفوظ؟ لقد نفذت كل ملاحظاته كما كتبها، وأنا فى عجب من أمر هذا الرجل العملاق الذى لم يكن ليتردد فى أن ينحنى ليمد يد العون إلى شاب صغير ما زال فى بداية حياته الأدبية! حين وصل نجيب محفوظ إلى سن التسعين، سأله محمد سلماوي: بماذا تشعر فى هذه السن؟، فأجاب: أشعر أننى فى محطة سيدى جابر، فحين كنت أسافر إلى الإسكندرية كل سنة كنت أنزل دائمًا فى المحطة الأخيرة المسماة محطة مصر، لكن حين كان القطار يتوقف قبلها فى محطة سيدى جابر كنت أدرك أنه لم يبقَ لى إلا محطة واحدة لأغادر القطار، وأنه لم يعد لديّ وقت إلا لألملم أشيائى وأستعد للنزول. وبعد وصول نجيب محفوظ إلى محطته الأخيرة يكتب محمد سلماوى فيقول هكذا كان وسيكون نجيب محفوظ، وما علينا إلا أن ننظر للرواية العربية كما كانت قبله وكما أصبحت بعده لندرك حجم التطور غير المسبوق الذى صنعه للرواية العربية دون فخر ولا تفاخر، فهذا العملاق الذى قيدت له الأقدار كل أسباب الفخر والتفاخر كان أكثر خلق الله تواضعًا، ذاكرًا أول تعليق له حين فاز بجائزة نوبل: كان أساتذتى أحق بها مني، وفى الوقت الذى اعتدنا أن نقيس قيمة عظمائنا بمقدار مجاراتهم للغرب، قائلين إن فلانًا عظيم لأنه يكتب الرواية مثل تولستوى أو ديكنز أو فلوبير، فقد استطاع نجيب محفوظ أن يصنع للرواية العربية شخصية خاصة بين الروايات العالمية، حتى أن الباحث والناقد الأمريكى الكبير روجر ألن يقول إن محفوظًا نجح فى إيجاد ما يمكن أن يُطلق عليه «الرواية العربية» كتقليد أدبى قائم بذاته أسوة بالرواية الروسية أو الفرنسية أو الإنجليزية التى لكل منها خصائصها. فى الأخير كم أتمنى أن يقرأ هذا الكتاب كثيرون، خاصة هؤلاء الكتاب الذين لا يرون على الساحة الأدبية سواهم، ظانين أنفسهم أنهم أتوا بما لن ولم يأتِ به الأوائل، ناظرين إلى أعمال سواهم وكأنها تفاهة تتحدث عن نفسها..لكل هؤلاء أقول لهم اقرأوا أعمال نجيب محفوظ، واقرأوا سيرته لتعرفوا أن أهم ما يمكن أن يمتاز به كاتب على وجه الأرض هو التواضع، لا الكِبْر المزيف، ولا تنسوا أن « النفخة الكدابة» سكين أول ما تقتل ستقتل صاحبها الذى يرى نفسه مُنزهًا عن كل عيب كما لو كان إلهًا للجميع.