ليس فى الإمكان قراءة ردود الأفعال على حفل افتتاح أوليمبياد فرنسا بمعزل عما يجرى فى عالم القرن الحادى والعشرين الفاشل فى أن يكون إنسانيًا، حيث يجرى تغييره وإعادة تهيئة أنظمته عنوة، عالم تقام فيه المحارق للأبرياء فى غزة علنًا وسط تجاهل تام للتظاهرات والنداءات والاستغاثات، بل واستقبال السفاح بالتصفيق الحار من قادة أكبر دولة فى العالم.عالم يفسد مناخه بسبب أطماع الدول الغنية، وعدم قدرة المنظمات الأممية على إيقاف تحول الأرض تدريجيًا إلى بيئة معادية.لهذا وغيره يصبح طبيعيًا للغاية تأويل الفن جماهيريًا باعتباره من أعمال السياسة، ورسالة من القوى المهيمنة تفصح بها عن مخططاتها لشكل الحياة فى الفترة المقبلة. فى أزمنة مغايرة كان من الممكن أن تمر اللقطات الخلافية من الحفل الفنى لأوليمبياد باريس من دون تلك الضجة العنيفة التى أجبرت المنظمين على تقديم اعتذار وتوضيحات. ليست المرة الأولى التى يسخر فيها عمل فنى صادر من باريس، أو من أوروبا، من الأديان أو من الرموز المقدسة بشكل عام، لكنها ستكون من المرات القليلة، حسب ظني، التى يتم فيها تقديم الاعتذار عن عمل فني، وسحب اللقطات المرفوضة من المنصات الرسمية المعروض عليها. غرقت مثل الجميع طوال الأيام الماضية فى متابعة التحليلات والتأويلات التى أثارهاحفل الافتتاح، من الواضح أن الأغلبية أجمعت على رفض تنامى خلال ساعات بلغات مختلفة، من أوروبا، ومن فرنسا ذاتها، وبالتأكيد من العالم العربى والإسلامي، موجة اعتراضات ليس فى الإمكان عدم الانتباه لها، أو التسفيه منها تحت مزاعم حرية الفن وخلافه، الأصوات التى تقول بذلك، أو حتى التى حاولت تصحيح المفاهيم القائم عليها الرفض،تاهت، لم يعد ضروريًا القول بأنها ليست لوحة «العشاء الأخير» لدافنشى بل «وليمة الآلهة» لجان فان بيليرت، فالمزاج العام استقر على أن ما جرى على نهر السين كان فى بعض لحظاته حفلًا شيطانيًا. المحامى فابريس دى فيزيز فى كلماته، التى انتشرت على نطاق واسع وتم ترجمتها لأكثر من لغة فى تبنٍ لفحواها، كان أصدق من عبر عن هذا المزاج الرافض والغاضب بقوله: «أعدت مشاهدة حفل افتتاح الأوليمبياد بمزيد من التفصيل، ولدينا مشكلة حقيقية.. هل إلى هذا الحد ترغبون بفرض أيديولوجيتكم على أطفالنا! من تظنون أنفسكم! أذكركم بأن الأخلاق العامة هى أحد مكونات النظام العام. سمعت من هنا وهناك ما يقال بأنه حفل استثنائى على المستوى العالمي، يبدو أنكم مجانين.. لا أهتم إن كان استثنائيًا، لا يمكننا الإساءة إلى إيمان البعض، ولا إلى معتقدات الآخرين، ولا إلى أخلاق الجميع، فقد أصبحنا فى لحظة معينة فى حفل شيطاني.» هل سعت باريس من خلال حفل الأوليمبياد، وكما يؤكد الجمهور العام، إلى التقدم خطوة نحو تحقيق سيناريو يقال إنه مرسوم للبشرية قائم على هدم ثنائية الذكورة / الأنوثة. ونشر المثلية. التحول الجنسي. الإلحاد! تبدو هذه قراءات متطرفة فى النظرإلى عمل فنى ما، حتى وإن بدا مبالغًا فى فجاجته، لكن على ما يبدو فقد اختفى عمل الناقد فى قدرته على تأويل الرموز وتفكيكها وتقديمها للقارئ، التأويل الآن من حق الجميع، الفعل النقدى حاليًا.. جماهيري، جماعي، لا تعوزه دراسة ولا يستند إلى مراجع ما، لا يضاهى نصوصًا أو أعمالًا ببعضها ليربط بين ما سبق وما بين يديه، لا يهتم ولا تعنيه سوى لحظته الحاضرة بمعزل عما سبقها، وإن لجأ إلى الرموز والتاريخ فذلك فقط كى يؤسس ويبرهن على رؤيته المنطلقة من نظرية المؤامرة. قضيت وقتًا أقرأ وأسمع بالعربية والإنجليزية قراءات تفسيرية للقطات محل الجدل فى حفل الافتتاح، ثمة اتفاق على أن الرسالة الواضحة تتمثل فى عودة فرسان الهيكل، الماسونية، ويظهر ذلك من خلال أكثر من رمز أبرزها رأس مارى انطوانيت المقطوع، هناك شروحات لمقاطع تؤكد على أنها تمجيد للوسيفر الذى مر يبارك الحفل منتشيًا بالطبع من التدنيس العلنى لرمز ديني! ليست التفسيرات المشار إليها لحفل الافتتاح بالنهج الجديد، بل مدرسة لها وجودها طوال الوقت، وفيها،مثل نقاد الفن، من يجيد قراءة الإشارات فى الأعمال الفنية وتوضيحها للمتابعين، عملها قائم على الموسيقى الصاخبة تحديدًا، والأفلام السينمائية ذات الطابع المعقد، وبعض أفلام الكارتون. الكثير من تلك القراءات يمكن التعامل معها باعتبارها إبداعًا موازيًا يتحاور مع النص الأصلى لولا أنها توغل فى تأويل الرموز واستخداماتها إلى حد خيالي، كما أنها تعظم من نظرية المؤامرة إلى حد أنها تمنح لأطراف بعينها أدوارًا تفوق القدرات البشرية وتكاد تنفى فعل الصدفة فى تكون الأحداث، فالتاريخ بالنسبة لها يكاد يكون مرسومًا بفعل منظمات خفية تملك قدرات مهولة، وما الفن إلا إحدى الأدوات المستخدمة لتحقيق السيناريوهات المكتوبة على الطاولات المستديرة والمستطيلة! الفن لا ينفصل عن السياسة، هكذا يقولون، كما أنه لا ينفصل عن شؤون الحياة الأخرى، غير أن التأويل الفج والربط المباشر ما بين الفن والاستخدامات السياسية كفيل بإفساد أى قراءة للعمل الفني، وهو بالضبط ما جرى مع حفل الافتتاح الفرنسى فعبر هذا المجال المستحدث ألا وهو النقد الجماهيري، لم يعد فى الإمكان التفرقة بين ما هو فن وما هو سياسة، بين النقد واللعن، وليست هناك بالتأكيد فرصة ما للشرح أو التوضيح فالإسهام الذى قدمته مواقع التواصل الاجتماعى فى انهيار ضوابط الكتابة الإبداعية، أو الكتابة بشكل عام، قدمت مثله فى التأويل وفى إشاعة الأخبار الكاذبة، من دون أن يعنى هذا بطبيعة الحال إنكار الآثار الإيجابية الأخرى لتلك الوسائط المتمثلة فى نشر المعرفة وتناقل الخبرة وكسر احتكار سلطة النشر والوصول إلى القراء. التأويل الجماهيرى لبعض لقطات حفل الافتتاح وإن كان متعسفًا لكنه من ناحية أخرى يؤكد على حقيقة يقول بها المتخصصون منذ بدايات الألفية، مفادها أن الفن الغربى لم يعد لديه ما يقدمه إلى الجمهور بخلاف الإبهار، فن لم يعد صالحًا إلا للتسلية إن تمكن من القيام بها، والأسوأ أن هذا الفن أصبح متهمًا بأنه رأس حربة لتنفيذ سياسات تسعى إلى فرض أجندات يراها الناس لا أخلاقية، ولم يعد قادرًا على الانتصار أو حتى مجرد السماح لأصوات المضطهدين والضحايا والمهمشين بالوصول إلى المسرح للتعبير عن معاناتهم، لهذا يكتسب التأويل المفرط للعمل أعدادًا أكبر بكثير من المدافعين عن قواعد الفن وأساليب التعامل معه، وتتأكد، بالنسبة لهم، الصورة التى ترتسم عنه.. فن لا أخلاقى ويستحق أن تكسر الجماهير قواعده كلها!