طمأنتنى يا صاحبى، فأنت منذ عرفتك صاحب دين قوي، نحسبك على خير، ولا نزكيك على الله. هذه ليست كلمات تعزية لأخى الذى لم تلده أمى، والصديق العزيز محسن جود فى مصابه الأليم، بل هى رسالة شكر وامتنان لهذا الرجل الذى جعلنى أرى بعيني، كيف يكون الصبر الجميل عند البشر العاديين، وقد كنت أظن هذا النوع من الصبر هو فقط من صفات الأنبياء، حيث ورد ذكره على لسان سيدنا يعقوب عندما جاءه نبأ أكل الذئب لابنه الأقرب إلى قلبه سيدنا يوسف، فقال لأبنائه إخوة يوسف عندما جاءوا على قميصه بدم كذب: (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون).. الصبر عند فقد الأحباب، بل أعز الأحباب، من أعلى مراتب الصبر.. أغلب البشر العاديين يرسب فى ذلك الامتحان عندما يصاب بابتلاء فقد الأحباب.. ليس فى أيامنا هذه فقط، بل وقع فيه كثير من البشر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش بينهم.. كلنا نعرف وقرأنا قصة المرأة التى مات ولدها، فأخذت تصرخ وتولول عند قبره، فنصحها الرسول ألا تفعل، ولم تكن تعرف أنه رسول الله، فقالت من خلال دموعها: «إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتى»، ولما أُخبِرَت أنه رسول الله، ذهبت معتذرة، فقال لها الرسول: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى». لقد تعرض حبيبنا محسن جود مدير مكتب الأخبار بالأقصر، الجمعة الماضية، لحادث أليم.. فقد خلاله زوجته الغالية، والأخت العزيزة على كل من عرفها «أم آية».. كما أصيب هو وبقية أفراد أسرته بعدة جروح وكسور.. عندما سمعت الخبر المفجع كان كل همى أن أعرف ماذا قال صديقى عندما فقد زوجته، هل ستنطبق عليه الآية الكريمة: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)؟.. فلما أسرعت لزيارته، وكأنه قرأ أفكارى دون أن أبوح بها، فإذا به يثلج صدرى من خلال دموعه عندما قال: «عندما رأيت روحها الطاهرة تفارق جسدها، وقبل أن تنزل دموعي، قلت: اللهم إنى راض بقضائك.. إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم ارزقنى الصبر الجميل».. طمأنتنى يا صاحبى، فأنت منذ عرفتك صاحب دين قوي، نحسبك على خير، ولا نزكيك على الله.. أنت يا محسن بإذن الله تعالى من هؤلاء الصالحين، الذين ينطبق عليهم قول سيدنا محمد: «أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل»، يُبتلى الرجل على حَسب دينه، فإن كان فى دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان فى دينه رقة ابْتُليَ على قدْر دينه، فما يبرح البلاءُ بالعبدِ حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه خطيئة. أعلم يا صديقى قدر حبك للمرحومة الغالية، ومدى ارتباطكما وتعلقكما ببعض.. لم تكونا أبداً زوجاً وزوجة عاديين، بل كانت علاقة ارتباط روحى ونفسى تصلح أن تروى فى الحواديت.. لم تكن هى تطيق بعدك، ولا أنت كنت تطيق فراقها ولو لساعات قليلة.. كنت أمزح معك دائماً عندما تضطرك الظروف للسفر للقاهرة، كنت أراك تعد الدقائق، بل الثوانى، لتعرف كم تبقى من وقت على العودة إليها، فكنت أداعبك قائلاً: لماذا لم تأت بها معك لتهدأ نفسك وتطيب روحك؟.. فتجيب ضاحكاً: أنا بدونها جسد بلا روح، فكيف يعيش هذا الجسد؟!، كنت دائماً أسمعك تشهد لها قائلاً: لم تغضبنى فى حياتها، ولا حتى مرة واحدة.. فأتفكر فى معنى حديث سؤال الرسول عليه الصلاة والسلام لسيدة جاءته فى حاجة: «أذاتِ زوجٍ أنتِ؟».. فلما قالت: نعم.. قال لها النبي: «فانظرى أين أنتِ منه، فإنما هو جنتك أو نارك».. لذا فشهادتك يا محسن فى حقها هى بشارة لأم آية، بأنها فى أعلى عليين بإذن الله. لا يستغرقك الحزن والبكاء يا صديقي، حتى لو كان حقاً مشروعاً، وهو لا يتنافى مع الصبر، ولكن تخيل لو عادت أم آية للحياة من جديد لمدة ثانية واحدة، ماذا هى فاعلة فيها غير أن تعزيك وتطلب منك أن تهتم بنفسك، ليس فقط من أجل الأبناء والأحفاد، بل من أجلها هى أيضاً، فمن كانت لها مثل صفاتها الملائكية لا يغادرونا أبداً مهما طالت فترة ابتعادهم عنا بأجسادهم، قبل اللقاء الذى لا فراق بعده، فى جنة الخلد بإذن الله.