الهجرة تعنى «لغة» انتقال الناس من موطن إلى آخر، لكن الهجرة النبوية كانت أعمق فى مغازيها ومعانيها وعبرها من هذا المعنى المعجمى البسيط والمباشر، صحيح أن النبى «صلى الله عليه وسلم» غادر مكة وتوجه إلى المدينة، لكنها كانت لحظة فاصلة فارقة، تحمل فى طياتها فلسفة راضية للتغيير الجذرى، وذلك جوهر الهجرة الباقى حتى قيام الساعة. «لا هجرة بعد الفتح» هكذا حسم رسولنا الكريم الأمر يوم الفتح، لكنه صلوات الله عليه، اشار إلى أن «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» وهذا يترجم وجهاً آخر لمفهوم الهجرة التى تعنى الإعراض عن كل ما يغضب الخالق حيثما وأينما كان، وقد قاطع المهاجر بقلبه أى سلوك أو فعل، بل أى نوايا سيئة تجاه وطنه ومواطنيه. على المهاجر المعاصر فى أيامنا أن ينبذ العشوائية إلى التخطيط، وازدراء الآخر إلى احترام التعددية والبغض إلى المحبة و..و.. وإذا كان المهاجر قبل 14 قرناً «فى عمق التاريخ الإسلامى» هو من هاجر مع النبى (صلى الله عليه وسلم) أو إليه، فلم يبق لنا اليوم إلا أن نهاجر إليه باتباع منهجه، والسير وفق تعاليمه وسنته، والتوسل إليه بصالح الأعمال اتباعاً للمعالم التى رسمها لنا عبر سيرته العطرة. لقد انحرف نفر من الناس فى زمن غير بعيد بمفهوم الهجرة عن جوهره الصحيح، ومالوا إلى تكفير المجتمع وهجرانه، محاولين بث الشقاق والفرقة بين الصفوف، بدلاً من السعى العاقل للأخذ بأسباب التغيير الهادئ، فى ظل منظومة من الود والتسامح والتعاون، والتعامل الإيجابى مع المظاهر المرفوضة، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة إلى هجرتها بالعقول والقلوب والأرواح، لا إلى هجر الوطن، انقلاباً على جوهر فلسفة الهجرة كما صاغها النبى (صلى الله عليه وسلم) فكراً وعملاً، فرغم جذريته إلا أنه لا يمثل نهجاً انقلابياً. هذا الحدث العظيم، الذى كان وسيظل فارقاً فى التاريخ الإنسانى قاطبة، باعتباره منهجاً شاملاً، يمكن اعتماده كبوصلة تؤشر لمن أراد أن يهتدى بها، وأن تساهم فى إعادة الإنتاج الراقى لجوهر الهجرة كجسر متين للتغيير، وتجاوز التحديات مهما كانت صعوبتها .