تدرك حكومة الدكتور مصطفى مدبولى الثانية أنها مقبلة على مهمة صعبة، فى ظروف بالغة الدقة إقليميًا ودوليًا، وحتى مناخياً، وكلنا رأينا تأثير ارتفاع درجات الحرارة على توليد الكهرباء، مع زيادة أسعار الغاز والنفط عالميًا، واضطرار الحكومة السابقة إلى تدبير أكثر من مليار دولار من أجل تقليل عملية تخفيف الأحمال، فى استجابة سريعة لمطالب المواطنين، ثم التعهد بالتوقف عن تخفيف الأحمال بشكل كامل خلال الشهر الحالى، بحثًا عن رضاهم. قراءة التغيير الوزارى وحركة المحافظين تشير إلى أن الأمر ليس استبدال وزير مكان آخر، ولكننا نتحدث عن تغيير كبير فى السياسات وطريقة تفكير الحكومة وصناعة القرار، والسير الذاتية للوزراء الجدد تحمل خبرات دولية فى مجالاتهم، فضلًا عن أن أغلبهم ينتمى للقطاع الخاص، ولديهم نشاط أهلى تنموى، وهو ما يعطى مؤشرًا أوليًا لانحياز الحكومة الجديدة لتحفيز الاقتصاد، خارج إطار البيروقراطية التقليدية، وكذلك استدامة العمل الخيرى والتنموى والتوسع فيه، فى ظل وجود اهتمام شخصى من الوزراء الجدد به. الأمر الثانى هو الانفتاح الكبير من الحكومة على الحوار الوطنى، كآلية دائمة، تتضمن تمثيلًا معتبرًا لكافة تيارات المجتمع المصرى، وكانت إشارة اختيار المستشار محمود فوزى أمين عام الحوار الوطنى وزيراً للشئون النيابية والقانونية والتواصل السياسى دالة على اتجاه الحكومة إلى إشراك الحوار الوطنى فى صناعة القرار السياسى والتواصل مع كافة التيارات السياسية، وكذلك وجود رجال أعمال ومستثمرين فى الوزارة يجعل من القطاع الخاص شريكًا آخر فى صناعة القرار الاقتصادى. مزجت الحكومة الجديدة بين التكنوقراط والخبراء المتخصصين، وفتحت الباب أمام الشباب للتمكين من منصب الوزير ونائب الوزير والمحافظ ونائب المحافظ، وخاصة من بين المنتمين إلى البرنامج الرئاسى لتأهيل الشباب للقيادة «PLP»، وكذلك خريجو الأكاديمية الوطنية للتدريب، وهو ما يعنى نجاح هذه البرامج فى تقديم كوادر، يمكنها القيادة تحت ضغط التحديات، وأن مجال اختيار القيادات واسع، وأن برامج التدريب والتأهيل الوطنية تكفى احتياجات الدولة من القيادات بكل مراحل العمل الحكومى. متوسط أعمار الحكومة الجديدة هو الأقل فى تاريخ حكومات مصر، وتتنوع فيها خبرات الوزراء، حيث تضم الحكومة الجديدة 11 وزيرًا من ذوى الخبرات الدولية والإقليمية، بنسبة بلغت 35٪ من إجمالى عدد الحقائب الوزارية، فيما ضمت 20 وزيرًا بخبرات محلية بنسبة 65٪. للأرقام دلالاتها فى توقع التغيير القادم فى السياسات، فنحن أمام قرار حكومى مختلف، يمتلك المرونة والفاعلية وروح الشباب، مع توقع طرح أفكار وحلول جديدة من خارج الصندوق، تستجيب لمطالب الشارع المصرى فى مراقبة الأسواق والسيطرة على الأسعار، وتوفير الخدمات والسلع بما يتناسب مع دخل الأسرة المصرية. وعقب حلف اليمين الدستورية اجتمع الرئيس عبدالفتاح السيسى بالوزراء والمحافظين ونوابهم، وصارحهم بحقيقة الأوضاع، وكان الحفاظ على الأمن القومى المصرى على رأس تكليفات الرئيس للحكومة الجديدة، فحجم المخاطر الإقليمية يتصاعد بشكل مخيف، فى ظل تصعيد الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وغياب قدرة الآليات الدولية على وقفه، وتأثير ذلك المباشر على الاقتصاد المصرى مع تراجع إيرادات قناة السويس. وهناك ارتباط بين ذلك الصراع الإقليمى وقدرة الدولة على توفير مطالب المواطنين وإرضائهم، لأنه ببساطة يضع على كاهل الدولة عبء الاستعداد لتأمين نفسها ومقدراتها، مع توفير استثمارات قد تتخوف من القدوم إلى منطقة يشتد فيها الصراع، بالإضافة إلى فاتورة أزمات سابقة، كانت بدايتها مع فيروس كورونا، ثم تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية، وارتفاع أسعار الطاقة والتضخم العالمى، وكلها أزمات يعانى منها العالم أجمع، ومن هنا تواجه الحكومة الجديدة تحديات غير مسبوقة، من أجل أن توفر للمواطنين احتياجاتهم. وفى تقديرى أن تأمين الجبهة الداخلية والحفاظ على تماسك المصريين يبدأ من تعامل حكومى مختلف مع مطالب المواطنين، وأن تعى الحكومة أنها تحت رقابة من الرئيس والشعب والبرلمان، وأن استجابتها السريعة لشكاوى المواطنين جزء أصيل من الحفاظ على الأمن القومى، خاصة وأن مصر تتعرض لهجمات تشكيك لا تتوقف فى كل ما تقوم به الدولة، بالإضافة إلى سيل لا يتوقف من الشائعات، التى تتطلب التعامل السريع معها وإبطال مفعولها، من خلال مصارحة الناس بحقائق أية أزمة ووضع خطة حلها على الفور ودون أى إبطاء، بما يقطع الطريق أمام أى اختلاق وقائع أو تزييف أو تحريض يستهدف عقول المصريين، ويعمل على تعقيد أداء الحكومة ويجعلها تحت سيف النقد. وحسنًا فعل الدكتور مصطفى مدبولى رئيس الوزراء أن يبدأ عمل الحكومة الجديدة بمؤتمر صحفى، يعرض فيه برنامج عملها، وأن يبدأ بموضوع حل انقطاع الكهرباء، وهو تحرك جيد يستجيب لمطالب الناس العاجلة والسريعة، وهى إشارة جيدة إلى أن الحكومة رصدت غضب المصريين واستغلال وسائل الإعلام المعادية للأزمة، وعملت على إنهائها، مهما كلفها الأمر من العملات الصعبة. لم يكتف الدكتور مدبولى بذلك بل أكد أنه تم وضع خطة لتأمين الاحتياطى الاستراتيجى، وأوضح أن غلق المحلات جزء من سياسة ترشيد الطاقة، لمواجهة أزمة انقطاع الكهرباء، وذهب إلى أبعد من ذلك بإعلانه وضع الحكومة للسيناريوهات الأكثر تشاؤمًا لمواجهة أى مستجدات أو صدمات، وهى مرونة مطلوبة فى ظل التحديات غير المسبوقة التى يشهدها النظام العالمى، والذى يجعل توقع الأسوأ هو أنسب أنواع التخطيط لعمل أى حكومة تسعى لإرضاء الناس وحماية حياتهم فى ذات الوقت. وأشار رئيس الوزراء إلى توجيهات الرئيس للحكومة الجديدة بأن تتواصل بشكل دائم مع المواطنين، وعرض كافة التحديات التى تواجه الدولة، من خلال عقد مؤتمر أسبوعى بجانب مؤتمر مرة فى الشهر يحضره الإعلاميون والشخصيات العامة، للاستماع لآرائهم ووجهات نظرهم فى مختلف القضايا، وهى بداية مشجعة جدًا لأنها تشير إلى نهج جديد من الشفافية فى عرض الأداء الحكومى، ويجعل صوت الناس مسموعًا لدى الحكومة طوال الوقت. وشرح رئيس الحكومة أسباب استحداث منصب نائب رئيس الوزراء، واختيار الدكتور خالد عبدالغفار للتنمية البشرية، لما يتمتع به من خبرات وتنوع وظيفى، والفريق كامل الوزير له كفاءة تنفيذية وإدارية من الدرجة الأولى، بجانب استحداث منصب وزارة الاستثمار لأهمية هذا الملف ورغبة الدولة فى جذب مزيد من الاستثمارات، وتعظيم الصادرات المصرية وزيادة العملة الأجنبية. انتهى حديث الدكتور مدبولى بالإعلان عن سعى الحكومة لتوفير العملة الصعبة من خلال جذب استثمارات أجنبية جديدة، وأن الحكومة تستهدف جذب 30 مليون سائح فى أسرع وقت، وزيادة الصادرات المصرية، داعيًا الرأى العام إلى إعطاء الوزارة الجديدة الفرصة للعمل، والصبر على الوزراء الجدد، ثم الحكم على أدائهم. والحق أقول إن الحكومة لديها مهمة صعبة وتحديات جسيمة، تحتاج فيها إلى إشراك الناس فى المسئولية، والدعوة المستمرة إلى التوحد والاصطفاف، وذلك مرتبط بدرجة الثقة فى الأداء الحكومى، وأظن أن العمل على حل موضوع تخفيف الأحمال يرفع من رصيد الحكومة الجديدة، مع السيطرة على التضخم وارتفاع الأسعار والرقابة على الأسواق وتوفير السلع بأسعار مناسبة، وهو ما ينتظره المصريون، فالأسعار هى حديث كل الأسر المصرية، ولذلك فالتعامل الجاد معها يدعم جهود الحكومة فى كل الملفات. والحق أقول أيضًا للمواطن إن صبرك مقدر.. والحكومة الجديدة أعلنت منذ اللحظة الأولى أن هدفها إرضاؤك، ونجاحها فى ذلك مرهون بالاستقرار، وحل الأزمات ليس له سوى طريق واحد، وهو الاستمرار فى العمل والإنجاز.