وسط صخب الطرق المتعرجة بمنطقة عزبة خير الله الواقعة على هضبة صخرية بحى دار السلام، يطل مُتفردًا بواجهته الصفراء المُبهجة وتصميمه المعمارى المُميز، تراه ناصعًا بين غابةٍ عشوائية من مبانى الطوب الأحمر التى التهمت المنطقة المحرومة من كل شيء، ليمثل مركز دوّار العزبة الثقافى نقطة نور ومُتنفسا للأهالى والأطفال هنا. إيمان القائمين على المشروع التنموى بأن الفن قادر على إحياء المجتمعات المُهمشة وتوكيد إنسانيتها، وجعلها أكثر قدرةً على الحياة والعطاء والإبداع، دفعهم إلى خلق هذه المساحة لتقديم مختلف الخدمات والورش الفنية والثقافية بالمجان، مع عملهم على تمكين المرأة ومساعدة السيدات على أعباء المعيشة، بتوظيف طاقاتهن وتوفير مصدرًا للدخل لهن. بمجرد دخولك إلى المبنى المُكوّن من ثلاثة طوابق ستشعر أن البراح يحتضنك خارج ضيق الحارة المُنعطفة من شارع السبع بنات، داخل المساحة المُخصصة للورش الفنية ينهمكُ مجموعة من أطفال العزبة فى ورشةٍ للرسم الحُر، مُمسكين بأقلام الألوان بأيديهم الصغيرة، بينما تتوسطهم مُدربة الفنون البصرية التى يتفاعلون مع توجيهاتها بشغفٍ وحماس بالغ. "نهتم بتقديم الفنون بأنواعها هنا لما لها من انعكاس إيجابى كبير على الصحة النفسية وخاصة لفئة الأطفال، وتُساعد على التعافى النفسى للمجتمعات المُهمشة" تقول منة مراد مديرة مشروع مركز دوار العزبة الثقافى، الذى انبثق عن مركز دوار للفنون الموجود بمنطقة وسط البلد. مُتابعة: المشروع يُعد امتدادًا لمطبخ دوّار الذى يحتل الدور الأول من المبنى، وهى مبادرة تنموية نسعى من خلالها لتوفير فرص عمل ودخل إضافى للسيدات، بتطوير وتسويق وبيع إنتاجهن من الأكلات المنزلية اللاتى يُعدنها هنا. أردنا أن نؤسس مكانًا مُميزًا لخدمة المنطقة بتقديم الورش والأنشطة الفنية التى بدأناها عام 2019، لما لمسناه من احتياج وتعطّش كبير لدى الأطفال والشباب هنا، لأى مُتنفس يستطيعون من خلاله التعبير عن أنفسهم وإبراز مواهبهم، وهو ماتفتقر إليه العزبة بشدة فى ظل صعوبة ومشقّة الحياة التى يعيشها الأهالي. وعن طبيعة الورش التى يُقدمها دوّار العزبة، توضح منّة أنها تتنوّع بين ورش الرسم والفنون البصرية والكورال والمسرح والرقص، مُضيفة: الأطفال هم أكثر الفئات إقبالاً على الالتحاق بهذه الورش، قدمنا حتى الآن خدمات فنية لما يقرب من 60 طفلاً من أطفال العزبة، واكتشفنا مواهب فريدة فى مختلف الفنون، فلا يقتصر دورنا على التدريب لكننا نُنظم معارض فنية لعرض إنتاجهم، فضلاً عن عروض المسرح التى تحظى بتفاعل كبير من الحاضرين. لمسنا تغييرًا كبيرًا على الأطفال بتفريغ هذه الطاقات، كثيرون منهم أصبحوا أكثر انفتاحًا وأكثر قدرة على التعبير عن مشاعرهم، فضلاً عن ثقتهم المتنامية بأنفسهم. وتوضح أن ورش السيكودراما وأنشطة المسرح التفاعلى المُتمثل فى مسرح إعادة التمثيل أو الحكي، من أهم الفنون التعبيرية التى نستهدف بها فئة الشباب من سن 18 إلى 25 عامًا، حيث يُنمى هذا النوع من المسرح لديهم الوعى بالمشاعر، والقدرة على اكتشافها وتجسيدها. وفيه يُشارك الجمهور بسرد قصص أو مواقف من حياتهم الشخصية والمشاعر المُصاحبة لها، ليقوم فريق من الممثلين بتجسيد هذه التجارب بشكل حى وتحويلها إلى مشاهد تمثيلية ارتجالية، وهو ما ندرب المُشاركين الراغبين فى ذلك عليه من خلال مدربين مُتخصصين، لمساعدتهم على تطوير تقنيات التمثيل وطريقة تجسيد التجارب بشكل حي. "اهتممت فى التصميم بتوفير مساحات داخلية واسعة مع ارتفاع السقف، وإتاحة مصادر كافية للإضاءة الطبيعية خاصة فى المرسم ومنطقة المسرح والورش الفنية" يقول أحمد سعفان المهندس المعمارى المُصمم لمشروع دوار العزبة، متابعًا: فكرة تصميم مركز يقدم أنشطة فنية بمنطقة عشوائية كانت تُمثل تحديًا كبيرًا بالنسبة إليّ، أردت أن يكون التصميم مُلفتًا وجاذبًا للنظر، لذا اعتمدت على اللون الأصفر كثيمة للمكان، فى ألوان الواجهات والنوافذ والأُطر الداخلية، كما أنه لون مُبهج وباعث على الحياة والنشاط ومُحبب للأطفال. استغرق التصميم والتنفيذ عامًا كاملا، بدأت قبلها بدراسة وفهم المنطقة المُحيطة وطبيعتها الجغرافية والمُكوّن الاجتماعى والسكاني، فضلاً عن العوامل البيئية والجوية المُتمثلة فى اتجاه الشمس والرياح ونوع الضوضاء، فالخطوات التصميمية التى يتبعها المعمارى يجب أن تُراعى كل هذه العوامل. لا يقتصر الأمر على كونه مجرد تصميمٍ معمارى كما يوضح سعفان، فهو يعتمد على فلسفة ومعنى له علاقة وثيقة بطبيعة المكان والبيئة المُحيطة به، فالعمارة تتفاعل بشكل كبير مع الناس "كنت أريد أن أخلق لغةً جديدة للمعمار باستخدام الخامات المُتاحة فى المنطقة، لذا اعتمدت فى الواجهات على توظيف الصاج الذى يستخدمه أهالى المنطقة فى تسقيف مخازن الأخشاب المنتشرة هنا، فضلاً عن أنها خامة غير مُكلفة." يُتابع: أردتُ التأكيد على أن نفس المواد يُمكن أن يخرج منها جمال استثنائى ببعض اللمسات والإضافات الفنية، كما استعنت بالطوب الأحمر والجير والأخشاب الموجودة فى عزبة خير الله، واستعنّا فى عملية التنفيذ بصنايعية من المنطقة ليشعروا أن المكان لهم. حاولت أيضًا استغلال الفراغ الداخلى بطريقة بيئية تتكامل مع طبيعة الورش والخدمات المُقدمة هنا، لخلق وتهيئة أجواء صحية مُحفّزة على الإبداع، من خلال بعض الحوائط أو الجدران الحيّة التى تحوى نظامًا مُتكاملاً للزراعة والري، وتوفر مساحة خضراء تُشجع الأهالى على فكرة التشجير، ولتخفيف حرارة المبنى بحيث لا يحتاج إلى مُكيفات هواء صيفًا، كما صممت السقف بدرجة ميل معينة تسمح باستخدام ألواح الطاقة الشمسية لتوليد الطاقة.