منذ «الخبز الحافي» سيرة محمد شكري الذاتية لم تُثر سيرة أخري ضجيجا مثلما أثارته سيرة الراحل الدكتور رءوف عباس الموسومة ب«خُطي مشيناها» وقد صدرت عن دار الهلال بالقاهرة، وصاحبها أستاذ جامعي ومؤرخ مشهور شغل رئاسة قسم التاريخ بجامعة القاهرة، وظل حتي وفاته رئيسا للجمعية التاريخية التي يُرجع فضل استمرار عملها ودورها التاريخي الريادي إلي مكرمة سمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي الذي أسهم مساهمة كبري في إنشاء مقر الجمعية التاريخية ورعايتها الأدبية والمعنوية. حاول المؤرخ أن يكون محايدا في طرحه فاصطدم بأعمدة التردي الثقافي والإعلامي، هذا التصادم كان حتميا لأنه لم يشأ أن يكون صامتا، بل ودّ أن يكون ذاته وأن يؤرخ لعصره، جابَ بلادَ الله رحّالة وأستاذا جامعيا بجامعات اليابان وقطر؛ ولكنه لم ينس إثبات دهشة المفاجأة وهو يدوّن يومياته يمتح من ذاكرته حينا ومن أوراقه في أحايين أخري، بيد أن جرأة سيرته علتها القسوةُ أحيانا، وهذا ما جعل أقلاما كثيرة ممن تناولهم في سيرته تنهال عليه معيّرة إياه ببيئته الفقيرة التي نشأ بها وقد كان صادقاً عندما تناولها في مذكراته غير آبه بما تجره عليه صراحته، فالفقر ليس عيبا يخجل المرء منه، فقد كان أبوه عاملا فقيرا - علي حد قوله - كان والده عاملاً بالسكة الحديد يشغل أدني درجات السلم الوظيفي الخاص بالعمال» بيد أنه كان شريفا عفيفا حرص علي تعليم أبنائه في ظل فقر مدقع آنذاك، وقد اضطرته الدراسة إلي العيش مع جدته التي كانت تكره أمه كرها شديدا فرأت في حفيدها متنفسا لتخريج هذا الكره فاحتمل الصبي ما لا يطيق مما أنهكه وأضرّ بصحته فقد كانت تستأثر بأكل اللحم دونه، هذا الحقد بين الجدة وحفيدها صوّره رءوف عباس تصويرا مؤلما ومؤثرا في المتلقي، إنها مشاعر الحقد التي تعتمل في نفسه ولم تفلح الأيام الخوالي في محو هذا الكره، وقد أفلح في تصوير الجدة بأسلوب يذكرنا ببخلاء الجاحظ، «حرصت الجدة علي أن تكلفه بأمور لا تفسير لها سوي إرهاقه انتقاما من أمه في شخصه؛... فكانت تري أن وجبة العشاء مضرة، ولا تنفعه لأنه صغير، وتناولُ العشاء قبل النوم يؤثر علي قدرته علي الفهم، وتتناول وحدها العشاء وهو يرقبها حتي تَعَوّدَ علي ذلك، فحذف من قاموسه مصطلح العشاء، وإذا طبخت لحما أكلته وحدها!... وعندما تجرأ وأكل - سرا - قطعة من اللحم ظنا منه أنها لن تكتشف الأمر، اكتشفت السرقة ولعنته وأمه وتوعدته،... وكان عليه أن يذهب إلي المدرسة في الصباح سيرا علي الأقدام لمدة ساعة يوميا دون أن يتناول طعاما منذ ظهر اليوم السابق» (ص23-24) وكم وددت لو أنه قد خفف من هذا الوصف الحقدي تجاهها، لكن قساوتها ربما تشفع له إلقاء الضوء علي طفولته البائسة. يمضي في خطاه المتعثرة حتي يتخرج من الجامعة، وترفض الجامعة تعيينه معيدا رغم أحقيته، ويتم تعيينه موظفا بشركة الفوسفات ويحاول أن يعود للعمل بالجامعة لكنه يفاجأ بالشللية والأهواء تقف دون تحقيق ما يستحقه بيد أنه لم ييأس ويتم تعيينه ويذهب إلي اليابان في رحلة أفادته كثيرا في المعرفة والترحال والخبرات الإنسانية. وليست سيرته بهذه القتامة إذ يذكر ما حققه من إنجازات في حياته الوظيفية والعلمية حتي وصل إلي رئيس الجمعية التاريخية وهي جمعية علمية عريقة، وكيف تدهور حالها المالي وهي في شقة سكنية تنوء بالوثائق والمخطوطات فكتب إلي سمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي حاكم الشارقة - الذي كان قد تبرع لجامعة القاهرة ببناء مكتبة لكلية الزراعة من قبل - وكيف هاتفه سمو الشيخ مثنيا علي مكانة الجمعية التاريخية ومهتما بأمرها وبما آلت إليه فيأمر بالبحث عن مقر يليق بتاريخها ووثائقها ولقد حقق الشيخ الدكتور سلطان القاسمي حلم الجمعية إذ أنشأ مبني مستقلا لها وأمدها بمبلغ من المال يكون درءاً لها وعونًا علي استكمال رسالتها، وقد حكي الدكتور رءوف عباس في سيرته هذا الصنيع الطيب من سمو الشيخ الذي حضر افتتاح المقر الجديد للجمعية وكيف كان هذا بمثابة «ميلاد جديد للجمعية». إن أهمية هذه السيرة تكمن في جرأة طرحها لما آلت إليه جامعاتنا ومؤسساتنا الثقافة والإعلامية، وكيف باتت المصالح الشخصية أهم من المصالح القومية، وكيف غابت الحوارات الهادفة والمناقشات العلمية عن منتدياتنا الثقافية والجامعية، إنها تطرح أسئلة عن تردي البحث العلمي العربي مقارنة بالبلاد الأخري وعن معوقات الرسائل الجامعية التي لا تنشر وإنما تطوي دونما فائدة، وكيف يتسلق المنافقون المناصب بينما يتم استبعاد ذوي الكفاءات العلمية والإعلامية في بلداننا العربية. لقد جاءت سيرته الذاتية كشفا لهذه الأخطاء والسلبيات التي نراها دون أن نشير إليها إلا صمتا بينما ودّ أن يعلو صوته محذرا من مستقبل عربي غامض في ظل طوفان العولمة. إن لغة السيرة وأساليب تقنياتها السردية تجعلها جديرة بالقراءة والتأمل وسيسير المتلقي في ركابه مندهشا مما حدث أو بالأحري مما يحدث، لكن الأخطاء الطباعية أضرت كثيرا بجماليات التلقي والسرد، ولا أدري ماذا يفعل مصححو دار الهلال؟ كما أن رءوف عباس حاول ألا تجيء صورته كما نراها دائما في السير العربية الأخري الأفضل والأجمل والأذكي، لقد ودّ أن يقول الحقيقة وإن شابتها المرارة، سرد المؤلف آثار أقدامه في طريق الحياة بصيغة الغائب - علي نهج أيام طه حسين - معترفا بأخطائه وعجزه، ومتمنيا أن يموت كالأشجار واقفا، وألا يسقط القلم من يده وأن يظل قادرا علي التفكير والإبداع حتي يجود بالنفس الأخير»(ص336)؛ وإذا كانت سيرة محمد شكري مؤلمة فإن سيرة رءوف عباس مُبكية علي واقع عربي يسير في خطي علي قدمين لَيْسَتَا له في طريق شائك وإلي وجهة لا يعرفها، فليرحمه الله.