رغم الحزن الذى يسيطر على القلوب والغضب الذى يسيطر على الغنوشى بعد فاجعة سقوط طائرتنا القادمة من باريس، فإننا يجب أن نحتفظ بعقولنا فى حالة يقظة دائما وتنبه مستمر لما يدور حولنا، لأننا سوف نتأثر به أيضا، بل لعلنا نحن المستهدفون به أساسا. ففى الوقت الذى كنا فيه مشغولين بمتابعة أنباء فاجعة سقوط الطائرة خرج علينا راشد الغنوشى مؤسس ورئيس حركة النهضة التونسية ليعلن تخارج حركته التى تعد أحد مكونات التنظيم الدولى للإخوان من تيار الإسلام السياسى وعزمه تحويل حركته إلى حزب سياسى مدنى، حيث قال لصحيفة لوموند الفرنسية: «حركة النهضة الآن حزب سياسى ديمقراطى مدنى له مرجعية حضارية مسلمة وجدانية.. نحن سنخرج من الإسلام السياسى لندخل إلى الديمقراطية المسلمة.. لا نعرف أنفسنا بأننا من الإسلام السياسي.. النشاط الدينى يجب أن يكون مستقلا عن النشاط السياسي، وهذا جيد للسياسيين لأنهم لن يكونوا مستقبلا مهتمين بتوظيف الدين لغايات سياسية، وجيد أيضا للدين حتى لا يكون رهينة للسياسة وموظفا من قبل السياسيين». وبالطبع لاقى هذا الكلام لزعيم حركة النهضة التونسية ترحيبا ليس تونسيا فقط وإنما أوروبيا وأمريكيا أيضا.. فهو يمنح من راهنوا على ما أسموها بالحركات الإسلامية المعتدلة قبلة الحياة.. ويجعلهم قادرين على الدفاع مجددا على رهانهم هذا الذى أصاب أكبر إخفاق فى الثالث من يوليو عام ٢٠١٣، عندما تمت الإطاحة بحكم الإخوان. لقد تحدث الغنوشى بما يروق لدوائر غربية أمريكية.. فهو يتسم بقدر من الذكاء والدهاء أيضا ساعده أولا على الإمساك بحكم تونس بعد الإطاحة بالرئيس بن على والتحالف مع قوى تونسية يسارية، وساعده ثانيا على الإفلات من المصير الذى لاقته حركة الإخوان المصرية فى عام ٢٠١٣، عندما تراجع خطوات أمام ضغوط قوى تونسية واسعة لإقرار الدستور والتحرك نحو الانتخابات وها هو يساعده ثالثا فى محاولته استعادة دور افتقده هو وحركته بتقديم نفسه وإياها فى رداء جديد حديث يختلف عن رداء الإسلام السياسى الذى ظلت ترتديه هذه الحركة منذ تأسيسها حتى اليوم. لكن الأهم والأخطر من هذا كله أن راشد الغنوشى يقدم لتلك الدوائر الغربية والأمريكية التى راهنت ومازالت على ما تطلق عليه الحركات الإسلامية المعتدلة أكبر خدمة.. إنه يقدم «نيولوك جديد» لهذه الحركات، تجمل فيه صورتها وشكلها، لمساعدتها على إعادة ترويج نفسها بين شعوب بلادها.. وأقول «نيولوك جديد»، لأن الغنوشى فى ذات الوقت الذى أعلن فيه تخارج حركته من تيار الإسلام السياسى فإنه بين أعضاء حركته أكد مجددا استمرارها فى هذا التيار وحرصه على جوهر تلك الحركة الذى قامت على أساسه كل هذه الحركات. فقد قال فى مؤتمر حزبه الذى حضره رئيس تونس كلاماً مناقضا تماما لما صرح به لصحيفة لوموند الفرنسية.. فقد قال نصا: «نستغرب إصرار البعض على إقصاء الدين عن الحياة الوطنية رغم أن زعماء الحركة الوطنية تاريخا كانوا متشبثين بديننا الإسلامى الحنيف». وهذا يعنى أن الغنوشى يناور ويخدع.. لا يناور أو يخدع تلك الدوائر الغربية والأمريكية، ولكنه يناور ويخدع عموم التونسيين وكل أبناء منطقتنا وربما بمساعدة تلك الدوائر الغربية.. فهو يتحدث فى اللوموند الفرنسية بلغة هو متأكد أنها سوف تلقى قبولهم وترحيبهم للخروج من مأزق سقوط رهاناتهم على تيار الإسلام السياسى فى الثالث من يوليو ٢٠١٣، بعد الإطاحة بحكم الإخوان، الذين سبق أن ساعدوهم للوصول إلى الحكم فى مصر بعد ٢٥ يناير. وما يهمنا نحن فى مصر أن الغنوشى يفتح أمام الإخوان وحلفائهم سبيلا جديدا يسلكونه.. إنه يمنحهم فرصة للخروج من القبر الذى دخلته جماعتهم بعد أن سلكت سبيل العنف والإرهاب والتصدى للإرادة الشعبية المصرية، والتواجد مجددا على سطح الحياة توطئة لدخول الحياة السياسية مرة أخرى.. كما يمنح الدوائر الغربية والأمريكية التى راهنت على حكم الإخوان فى مصر والتى لم تسقط هذا الرهان حتى الآن، فرصة لتحقيق ما ظلوا يعملون من أجله وهو حماية جماعة الإخوان من الانهيار التام والحفاظ على وجودها، بل وإعادة إدماجها مرة أخرى فى الحياة السياسية المصرية توطئة لإعادتها إلى حكم مصر فى وقت آخر قادم. الغنوشى يرسم خريطة اتجاه لجماعة الإخوان، أو خريطة العودة إلى الحياة مجددا بعد أن كادت تلفظ أنفاسها.. وهذا ما يدركه تيار داخل الجماعة يخوض الآن صراعا مع قياداتها القديمة والتى يتقدمها محمود عزت نائب المرشد والقائم بعمله حتى الآن.. فهذا التيار يحاول منذ فترة تغيير شكل هذه الجماعة والانفتاح أكثر على عناصر وقوى سياسية مدنية بعد أن ترفع لافتات مدنية وليست دينية وتقدم نفسها بوصفها حركة سياسية ديمقراطية. والغنوشى يقدم فى ذات الوقت للدوائر الغربية والأمريكية التى راهنت على جماعة الإخوان وعلى ما يشبهها من حركات وجماعات دينية فى منطقتنا خريطة للخروج من المأزق الذى وقعت فيه بعد الإطاحة بحكم الإخوان فى مصر ٢٠١٣، وما اقترن به من زيادة الضغوط داخل أوروبا وأمريكا من قوى سياسية عديدة ترى أن ذلك الرهان فاشل وخاسر، لأنه لايوجد جماعات دينية معتدلة فى منطقتنا وأن هذه الجماعات تورطت أيضا فى ممارسة العنف، وتحالفت مع جماعات تمارس الإرهاب فى منطقتنا. هذا ما يجب أن نتنبه إليه.. نتنبه أولا إلى أن جماعة الإخوان قد تسعى إلى تغيير جلدها من أجل خداعنا مجددا، وبعض قادتها يفعلون ذلك بالفعل الآن.. ونتنبه ثانيا إلى أن تلك الدوائر الغربية التى راهنت على حكم الإخوان لبلادنا ولم تنه هذا الرهان بعد سوف تظل تتآمر علينا بكل السبل من أجل تحقيق رهانها هذا وإثبات نجاحه.. أى فرض حكم الإخوان علينا مجددا، وإن لم ينجحوا يعاقبونا على ذلك.