بدأ الحديث عن إتجاه الشعراء إلى الرواية منذ سنوات طويلة، حتى إنه لم يعد أمرًا مثيرًا للجدل مع إتجاه عدد كبير منهم إلى كتابة الفن الأكثر إنتشارًا، وحظًا في النشر والجوائز، إلا أن الشعراء كان لديهم تفسيرات أخرى لحالة النزوح شبه الجماعي آنذاك، منها الرغبة في التجربة، وطرق عوالم أخرى لفن الكتابة، لكن مؤخرًا زاد الإتجاه للكتابة النثرية بصفىة عامة، فكان لكتابة المقال حظًا أيضًا من إهتمام شعراء مصريين وعرب، في الصحف الورقية، والمواقع الإلكترونية، بما فيها من إشتباك مع الواقع، والمناخ السياسي والإجتماعي، وهو ما نثيره مع عدد من الشعراء الذين كتبوا النثر سواء من خلال أعمال روائية أو من خلال فن المقال محاولين الإمساك بتلك اللحظة الذي يترك فيها الشاعر مساحته الخاصة ويلقى بنفسه في أحضان الواقع. يبدأ الشاعر عبد المنعم رمضان صاحب المقالات "النارية" حديثه بقوله "إننا لسنا في زمن الشعر" ويضيف: كل دور النشر بلا إستثناء ترفض الدواوين وترحب بالروايات، فأصبح الشعر كالطفل المنبوذ في العائلة، والشعراء الذين كانوا في الخمسينات وما بعدها يتعالون على كتابة النثر وكانوا يكتبونه، ربما، بإستخفاف كبير، مثل كتابة صلاح عبد الصبور وعبد المعطى حجازى النثرية التي لا ترتقي لقيمة شعرهم، ويمكن إعتبارها "كتابة وقت الفراغ"، لأن عملهم الأساسي هو كتابة الشعر، ومع إتساع رقعة الإعلام وتزايد أعداد الصحف وتحولها إلى القوة الأكبر التي تعيد صياغة العالم الآن، أتجه بعض الشعراء إلى أن يكونوا طرفً فاعلا بنثرهم، لأنهم لم يستطيعوا أن يتواجدوا بشعرهم، ولكن هناك بعض الشعراء بدأوا في المدرسة "الشامية" مثل سعيد عقل وأنسي الحاج، يمارسون النثر باستمتاع، وهذا النثر بالتأكيد ليس لملء أوقات الفراغ، بل نقرأ نثرهم باعتباره شعرًا آخر. إنتشار مواقع التواصل الإجتماعي والمواقع الإلكترونية من أسباب انتشار المقالات السطحية بصفة عامية فهى وسائط لا تحتمل العمق، يلائمها أكثر النثر غير الفنى تحديدًا، وهو ما يكتبه معظم الشعراء الآن مثل غيرهم، ولا يمثل إمتدادًا للشعر، بالنسبة لى فكتابة المقالات لحظة عابرة ما بين قصيدة وقصيدة، فالشعر صار عزيزًا في هذا المناخ، وقد تربيت في مدرسة النثر الشامي لذلك أتعامل مع المقال باعتباره عملا إبداعيًا، وإتجاهي للنقد اللاذع أحيانًا، هو ضرورة، فهناك معارك لازمة لأننا محاطون بفساد لابد من مواجهته، ونتحول من سىء إلى أسوأ في فساد شبكة العلاقات الثقافية والمؤسسة الثقافية ومازال الأسوأ قادمًا. ويؤكد الروائي والشاعر علاء خالد إننا في "زمن النثر" قائلًا: بالنسبة لى لم أترك الشعر للنثر، بل كان النثر أساسيا من البداية كوسيلة للتعبير عن شكل مختلف من المشاعر والأفكار. هناك لحظة نعيشها الآن، تمتد منذ سنوات طويلة، اقترب فيها هدفا النثر والشعر، أى كان من يتحكم فيها، والذى أعتقد أنه النثر، نظرا لسطحية الحياة التى نعيشها، وتركزها على السطح، والتى لايمكن الإعتماد عليها لتخليق أفكار شعرية مستقلة عن سلطة النثر. إنها لحظة سرد، لأنها أيضا لحظة تعايش مع نهاية حكاية إنسانية مرتبطة بالتحرر انتهت بكل روافدها فى التسعينيات. هذا التحرر وإنسانه هو إنسان الشعر. اختفاء هذا الإنسان وهذا الطموح أفسح المجال للنثر ليسرد، أو ليكون هو السارد الوحيد لرحلة الهبوط وفقد الإيمان، والكفر بكل ماحوله، بسرد كل التفاصيل والزوايا المخبوءة فى تلك الشخصية القديمة. ، فحتى بداية التسعينيات كان الشعر هو المعبر الرمزى الأرقى عن الثقافة، كونه مخزنا لمعان وأفكار ومشاعر غامضة، وغير مطروقة، وتتجاوز النشاط الإجتماعى. ولكنه ظل يبث ببعض أشكاله التى تؤثر على النثر، مثلا تبنى النثر للقضايا الهامشية والحكاية عن الهامش، أعتقد أنهما من ميراث زمن الشعر. إننا نعيش زمن النثر كهزيمة لروح الشعر، وإنسانه، وليس لشكله. كهزيمة لرمزيته الراقية الحساسة غير المسيسة. هناك مستوى من الغموض غاب الآن عن الحياة وغابت وسائل التعبير عنه، لذا أخذ النثر على عاتقه تفسير هذا الغموض. ويختلف معه الروائي والمترجم والشاعر أحمد شافعي معتبرًا إننا في زمن الشعر ويوضح فكرته قائلا: عن نفسي أميل إلى أن اللحظة التي تعيشها مصر منذ ثورة 25 يناير العظيمة، جعلت من الصعب على أحد تجاهل الهم السياسي والوطني والاجتماعي، وبما أن الشعر لا يصلح تعليقا على الأحداث، فكان على كل شاعر أن يجد متنفسا آخر بداية من استيتس على فيسبوك وإلى ما لا نهاية. مسألتان مهمتان أود أن ألفت النظر إليهما. الأولى أن في نثر الشعراء جمالا لا يصادفه القارئ عند غيرهم إلا نادرا، وانظروا إلى مقالات قصيرة قرأناها أخيرا لفسوافا شمبورسكا، وكتاب ك "اللهب المزدوج" لأوكتافيو باث، ومقالات لتشارلز سيميك، والأمثلة تستعصي على الإحصاء. وهو ما يعني أيضا أن ظاهرة تحول الشعراء إلى الكتابة النثرية، إن كانت ظاهرة وإن كان تحولا، شائعة في ثقافات أخرى وأزمنة أخرى، ومسألة ثانية، هي أن الزمن زمن الشعر طول الوقت. ربما تتوقف لغة في ظروف معينة ولفترة معينة عن الإضافة إلى كنز الشعر الإنساني، لكن لغات أخرى تعوِّض هذا الغياب، والمخزون الشعري الإنساني كبير وكاف ومحفز. فمن مزايا الشعر العظيم أنه لا يفقد معاصرته مطلقا.فتبقى أبيات من امرئ القيس أو باشو أو لي باي أو والت ويتمن، والقائمة طويلة، قادرةً على مخاطبة الإنسان في كل زمان ومكان. ويبقى الشعراء من أقدر البشر على النفاذ إلى جواهر الأشياء، لأن هذه طبيعة الأداة التي يعملون بها، فهذا قدرهم. ومرة قلت إن الشعر دعوة إلى تأمل ماسة، بينما النثر دعوة إلى مشاهدة فيلم تسجيلي عن استخراجها. ربما أكون مبالغا، ولكن هذه أيضا طريقة الشعراء في تعرية الحقيقة أمام العيون. من جانب آخر، يرى البعض إن هذا الإشتباك مع اليومي والمعاش متناقض مع طبيعة الشعر ذاته، وصورة الشاعر النمطية باعتباره أقرب للخيال من التفاصيل اليومية، وباعتبار لغته أقرب إلى العاطفة من الواقع، ويوضح الروائي والشاعر ياسر عبد اللطيف هذه الزاوية قائلا: بالفعل، الصورة النمطية للشاعر العربي القديم، هي السبب وراء إثارة مثل هذا السؤال. أتذكر أني قرأت لدى عبد الفتاح كيليطو قصة عن أحمد فارس الشدياق، أنه دبج قصيدتي مديح، على النمط العربي القديم لفيكتوريا ملكة انجلترا وللويس نابليون امبراطور فرنسا أثناء رحلته في أوروبا وقد حرص على ترجمتهما للإنجليزية والفرنسية، وكان ينتظر العطايا المتوقعة من الأمراء، ولكن أمله قد خاب، ولم يتلق سوى رسالة شكر من أحدهما أما الآخر فقد تجاهل الموضوع تماما. هنا نرى نموذجا لتعارض بين صورتين مختلفتين عن الشعر ودوره. أعتقد أن شاعر قصيدة النثر العربي الحديث منبت الصلة بذلك النموذج الذي كان الشدياق يعيد إنتاجه حتى منتصف القرن التاسع عشر؛ لا أقصد فقط الشاعر المدّاح، ولكن كل ما ارتبط بدور الشاعر من أساطير، ومنها استنكافه من كتابة النثر، باعتبار النظم أكثر شرفاً، وعلى كل الاحوال لا أعتقد أن هذا السؤال ينطبق عليّ تماما، فأنا لم أعتبر نفسي أبداً شاعراً "بدوام كامل"، وأفضل أن أعرَّف نفسي ككاتب يقترف الشعر أحياناً.