لم يكن يدري أهل واحة باريس وهم يوجهون نداءهم طوال الأيام الماضية عبر اذاعة الوادي الجديد للمسئولين بتخصيص سيارة اسعاف لنقل مرضي الفشل الكلوي لاجراء جلسات الغسيل بمستشفي الخارجة ان قرار المحافظ بالموافقة علي طلبهم هو موعد مع القدر لوقوع أكبر كارثة في تاريخ الواحة الصغيرة بعدما انقلبت الاسعاف ومات مرضاهم الثلاثة ويصاب المسعفون وأبناء المرضي لتتحول الواحة طوال الساعات الماضية إلي مأتم كبير. ولعل الأهم من كلمات العزاء لأهل الواحة البسطاء الآن هو توفير جهاز غسيل كلوي بدلا من مشوار الموت الذي أصبح ينتظر مرضاهم مرتين كل اسبوع. المكان هنا واحة باريس تلك البقعة الخضراء التي تقبع وسط الصحراء الغربية يقطنها نحو 5 آلاف شخص من البسطاء وتعد مدينة الخارجة عاصمة الوادي الجديد التي تبعد عن الواحة 09 كيلو مترا هي اقرب مكان لهم.. حياة سكان الواحة غاية في التواضع والبساطة فهي تقوم في الاصل علي زراعة بعض الأماكن بالزراعات الموسمية البسيطة مثل القمح والشعير والبرسيم للماشية. حياتهم ظلت طوال مئات الاعوام الماضية رغم بساطة معيشتهم في وضع صحي طيب..
ولكن منذ نحو 51 عاما بدأوا يشربون من نفس الكأس المسموم الذي تجرعه كل المصريين عندما عرفت المبيدات إياها طريقها للواحة وبدأ المزارعون في استخدامها لرعاية زراعاتهم. وبالطبع كانت نفس النتيجة التي اكتوي بنارها كل مواطن في هذا البلد سلسلة من الامراض الخطيرة علي رأسها الفشل الكلوي اصاب بعض ابنائها. الحل الوحيد لهم هو جلسات الغسيل الكلوي.. نعم هناك مستشفي بالواحة ولكنه ايضا مثل كل مستشفيات المناطق النائية والبعيدة.. فالرعاية الصحية الحقيقية لهم تعتمد علي القوافل الطبية التي تذهب اليهم بين الحين والاخر. ورغم ذلك ظلت الواحة ومستشفاها بدون جهاز غسيل كلوي ولم يكن أمام المرضي سوي تحمل مشقة السفر الي عاصمة الخارجة يومين كل اسبوع في رحلة ذهاب وعودة طولها 081 كيلو مترا ربما يتحملها الانسان المعافي ولكن الامر يختلف مع مريض عائد بعد مكوثه عدة ساعات فوق جهاز غسيل دمائه خاصة ان معظمهم تجاوز الستين من عمره. لم يعد المرضي يتحملون عناء السفر ولا تكاليفه فنظم اهل الواحة طوال الايام الماضية حملة تطلب مساعدة الحكومة في التخفيف عن كاهلهم بتخصيص سيارة اسعاف تنقل المرضي الي مدينة الخارجة ثم تعيدهم للواحة بعد جلسات العلاج.. صوت المساكين وصل عبر اذاعة الوادي الجديد الي المحافظ الذي استجاب لندائهم وكلف مديرية الشئون الصحية بالتنفيذ.. منذ أيام تم تجهيز سيارة الاسعاف.. صحيح انها موديل قديم وحالتها ليست أفضل حالا من حال المرضي الذين ستنقلهم ولكنهم فرحوا وقنعوا بها فهي ستؤدي الغرض. يوم الاربعاء الماضي وفي الصباح الباكر انطلقت سيارة الاسعاف المتهالكة في رحلتها الثانية تنقل المرضي.. ومع كل واحد منهم ابنه كمرافق له ليتولي مساعدته خاصة ان المريض بعد جلسة الغسيل يبقي فترة في حالة اعياء.. وللرعاية ايضا كان هناك اثنان من المسعفين الشبان.. ووصلت الاسعاف الي مستشفي الخارجة العام وبعد الظهر انتهت جلسات الغسيل لتعود الرحلة بركابها الي الواحة.. في منتصف الطريق وعند الكيلو 54 وبينما كانت السيارة تنهب الطريق بسرعة انفجر اطارها الامامي فشل قائدها في السيطرة عليها فانقلبت عدة مرات ومن شدة الحادث ابتعدت عن الاسفلت بنحو 05 مترا قبل ان تستقر علي الرمال.. وفي لحظات تحول حطام سيارة الاسعاف الي نعش يرقد داخله المرضي الثلاثة بينما اصيب الاخرون في مقدمتهم سائق الاسعاف وزميلاه وابناء المرضي تنوعت اصاباتهم بين الكسور والجروح المختلفة.. بالطبع توقفت حركة الطريق في حين وصل الخبر الي اهل الواحة.. وكذلك المحافظة.. لتنطلق سيارات الاسعاف وتنقل الجميع موتي ومصابين الي مستشفي مدينة الخارجة لم يصدق العاملون بها مشهد القادمين الذين لم يمر علي مغادرتهم اكثر من ساعة ونصف الساعة.. نقلوا الموتي للثلاجة لحين حضور رجال النيابة للتحقيق بينما انطلقت الاسعاف باصحاب الحالات الحرجة الي المستشفي الجامعي في اسيوط في رحلة طولها 012 كيلو مترات بعد ساعتين كان قرار النيابة قد صدر بالتصريح بدفن جثث المرضي الذين عادوا للواحة مرة اخري التي اتشحت جميعها بالسواد وخرج كل سكانها لتشييعهم إلي المقابر التي لم يعد هناك موضع لقدم في زحام هو الاول في حياة الواحة بعد ان لحق بهم اقاربهم واصهارهم من خارجها لتتحول واحة باريس الي سرادق عزاء كبير.. واصبح باقي مرضاها يعيش في كابوس الخوف والمشقة في رحلة السفر مرتين كل اسبوع لاجراء جلسة الغسيل الكلوي ولسان حال الجميع يلعن اليوم الذي استخدموا فيه مبيدات الموت والمرض.. ولعل جهاز غسيل كلوي للواحة يخفف عنهم الكارثة ويحقق لمرضاهم الرحمة من رحلة العذاب مرتين كل اسبوع.