بل قل ملحمة وليست محنة.. ذلك أنهما كل في عرينه أو في معبده لا يكل ولا يمل أن يضيف حجرا في بناء صرح العدل وذووه كل في مراسيه.. ومن هنا فإنه لا يقبل بل قل لا يعقل أن تدب الفرقة والافتراق حتي بات مداه أن شارفت نهايته الفراق.. خلف وخلاف يتصاعد الي فرقة وافتراق بلغ حد التماسك بالخناق.. عجيب بل وعيب أن تشهد أرض الكنانة أحداثا وحادثات لا عهد لها بها.. غير مسبوقة في تاريخها. إن الشعب المصري في رحلته مع الزمان اتسم بأنه شعب طيب بدرجة ساذج أحيانا.. وساذج بدرجة عاجز نوعا.. وعاجز بدرجة مسالم نسبيا.. ومسالم بدرجة خاضع الي حد ما.. فمصر ما عاشت ولا بقيت آلاف السنين الا لأنها قبلت بالحلول الوسطي مؤثرة البقاء علي الصدام ولكن بثمن الخضوع ولا تقول العبودية والاستسلام والخنوع. وإنه ولئن اعتنق البعض بأن ذلك منها ليس استسلاما بل هو »الاعتدال« إلا أنه يتعين أن نعي وندرك أن مرضا خبيثا يكمن فيه مقتلها البطئ لأن التطرف في الاعتدال هو إفراط في السلبية. ولا مساغ للتحاج بأن الاعتدال فضيلة لأن حد ذلك أن لا يكون وليد العجز والانبطاح ومواجهة ما يعتري مصر الان هو »الاعتدال في الاعتدال« ولا علاج لها سوي جرعة محسوبة من التطرف المعتدل كمصل مضاد أو بالأحري يكون واقيا ووقاية من اعتدالها المتطرف وذلك لا سبيل إليه إلا بقبضة موجعة لأن مصر تعيش في هذه المرحلة ما لا عهد لها به فإنها تتخبط حتي تكاد أن تضل الطريق وتسقط في هوان الانكفاء.. الفوضي.. الضياع ولا مفر أو مهرب أن تفاجأ بحاكم ظالم فنعود الي زمان القهر والاستبداد والمذلة والهوان. إن شئت دليلا وبرهانا.. فانظر حولك.. اضرابات عن العمل شملت جميع طبقات العاملين قمة النخبة وأطراف وزعانف المجتمع.. اعتصامات.. مسيرات ومظاهرات.. أمن مختل وأمان مفقود ومعتل أسلس الي اقتراف أبشع الجرائم حتي في وضح النهار.. اجتراء علي مواقع الأمن وامتداد الأيادي بالضرب. إن سقوط هيبة الدولة يدفع أي مقامر أو غادر بأن يقفز علي مقعد السلطة والويل لنا من المذلة والهوان. إن النظام السياسي الحاكم مقطوع الرأس واليدين والقدمين.. ذلك بأن رأس الدولة ورئيسها في غيابات الجب وغياهب السجون.. والسلطة التشريعية غائبة مغيبة.. شاغرة ورئيساها في صحبة الرئيس وراء القضبان والسلطة التنفيذية وهي أداة الحكم غير باسطة قبضتها لتحقيق الامن والأمان وغني عن البيان أنه إن تخلخلت القبضة أو أصابها الضعف فإن النظام السياسي برمته يكون في مهب الريح فاقد الأهلية.. بل وافتقد سبب وجوده لأن الوطن هو الذي يأمن فيه الانسان من خوف ويطعم من جوع.. وفاقد الشئ لا يعطيه والنظام القائم عاجز أو في غيبوبة. وهنا.. فإنه لم يعد متبقيا من مؤسسات السلطة سوي الهيئة القضائية وإنه إذا كان القضاء المصري منذ نشأته الاولي في ديسمبر سنة 3881 يبسط سلطانه ولا سلطان لأحد عليه.. هيبته.. تقديره وتوقيره باقة ورد علي رقبته ولا جناح عليه.. حقق لنفسه موقع الصدارة.. كلمته هي العليا.. إنه ليس مجرد (حبة) في عقد السلطة بل هو الأمل.. الجبل.. تشرئب إليه أعناق أولئك الذين يحرقهم الشوق الي العدل وسيف الله في الأرض علي رقاب الذين يؤرقهم الخوف من العدل.. يعيش رجاله رهبان الليل وفرسان النهار.. هو الزورق الذي يلوذ به كل من خشي ان يغرق.. لهم تقاليدهم وموازينهم من العمالقة الذين سبقوهم جيلا بعد جيل.. ولمن شاء ان يرجع الي كتبه الذهبية وما سطر فيها من مبادئ كانت هي المنبع والمعين لكل الأنظمة العربية. ولكن ما الذي جري!! إنه في هذا العصر الخبيث الذي يعج بألغام الطريق.. تزايدت فيه الفتن وتفشت فيه ضروب التخريب لا يتغيا سوي إسقاط ثورة 52 يناير يتباري فيه عملاء كثر من المخربين والمأجورين والمرتشين والطامعين في إجهاض وضرب شعاع الأمل والرجاء.. في هذا الزمان طال واستطال الي القضاء الأمراض الخبيثة باشاعة الفرقة والافتراق.. بين قضاة مصر وأندادهم وشركائهم من رجال المحاماة والذين لهم من التاريخ ما نباهي به الأمم.. بناة صرح العدالة لتنعقد لهم ذات الصفات المعقودة للسلطة التي يشاركونها في إرساء المبادئ وإعلاء شأن العدل.. هم المحامون رجال القضاء الواقف وجها لوجه ورأسا برأس سواسية علي السواء أمام الجالسين أمامهم دون استعلاء أو زهو وخيلاء وكبرياء.. كيف يتأتي وتاريخ فرسان المحاماة أنهم قادة الفكر والرأي والنضال علي امتداد تاريخ الكفاح الوطني. ومن هنا فإن ما تشهده الساحة بأن فئة من رجال القضاء تطالب بتقنين النصوص التي يبغون من ورائها تعميق صوت وصيانة المنصة العالية حالة أن الأحكام القائمة التي لم يجادل أحد أو ينكر ويتنكر لها طوال قرن ونصف من الزمان في كفايتها وبطلان أي تشريع ينطوي علي تطفيف الكيل لإحدي كفتي الميزان يزعم استحداث أحكام تعد افتئاتا علي قداسة المحاماة.. والله يشهد أن ما يجري علي الساحة هو فتنة أو امتداد المرض الخبيث الذي يكاد يقصم ظهر العدالة في غفلة المحاماة.. ويا أيها السادة ان المزايدة في هذه الحلبة تؤذن بشر مستطير لا يفطن إليه من يقف وراءها أروقة القضاء واحسرتاه أن يضل الفصيلان الطريق ويبلغ السيل الزبي فتبادل الطرفان إطلاق النار.. بل ووأسفاه ان يغلق أحد الطرفين أبواب المحاكم بالجنازير وأن يطفئ الطرف الآخر أنوار العدالة بالامتناع عن الصعود الي منصة القضاء. يا أيها السادة.. يا حضرات القضاة.. مصر في خطر وانتم لستم بمنأي عنه ومنه وأستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. النائب الأول السابق لرئيس محكمة النقض ومجلس القضاء الأعلي