خلال ثورة 9191، وفيما تلاها انبعثت طاقة روحية جبارة في الشعب المصري انعكست في كل مناهج الحياة، الفن، الاقتصاد، الأدب، العمارة، النهضة بمفهومها العام. وكان أهم سماتها العودة إلي الأصول مع الاحتفاظ بالفروع. مصر أقدم شعب في العالم، وهو الأصل في الاجتهاد الإنساني من أجل فهم الكون. علي ضفتي النيل توصل المصريون إلي الكتابة. واكتشفوا ان هذا الكون لم يوجد صدفة، ثمة قانون ينظم حركة الوجود، ادركوا وجود الخالق إكتشافان أساسيان يعدان أساسا لكل الاجتهادات الفكرية والدينية التي ظهرت فيما تلا ذلك من مراحل حتي يومنا هذا. في ثورة 9191، جرت محاولة كبري لاكتشاف مصر بكل مكوناتها وظلت الطاقة الروحية مستمرة إلي منتصف القرن الماضي، كان كل شيء واضحا ربما لوجود حزب قوي يقود الثورة »الوفد« وزعامة كاريزمية تدل وتقود »سعد زغلول«. في ثورة يناير تفجرت طاقة روحية ملهمة، لكنها لم تجد الإطار الذي يوجهها ولا الزعامات التي ترشدها حتي الآن لظروف تكونها والتمهيد لها ومساراتها مما يعد نقلة في تاريخ الإنسانية. وتجربة جديدة بكل المقاييس. هذه التجربة لها ايجابياتها التي تتمثل في قيامها بدون إطار أو قيادة متمثلة في شخص. ونفس هذه الايجابية تمثل سلبية خاصة في مرحلة ما بعد الثورة. إذ تعددت القوي التي تحاول إدارة هذه الطاقة. ولأن التيارات الدينية المتشددة الأكثر تنظيما ودعما »خاصة الوهابيين الذين نطلق عليهم السلفيين«. فقد بدا وجه مصر علي غير حقيقته، بدا في مجمله متعصبا، رافضا للآخر، التكوين الروحي لمصر انجب وأدي إلي ثورة يناير، إلي هذا الحدث الذي أصبح معلما في تاريخ الإنسانية. ويبدو ان أصحاب الحدث لم يدركوا قيمته بعد. التكوين المصري أعمق وأشمل، وقد شغلني أمره طويلا. خاصة في كتابي »نزول النقطة« الذي صدر في كتاب اليوم منذ عامين، وأقدم بعض فصوله إلي القارئ بعد إضافات من وحي الأحداث الأخيرة مستلهما فيها روح مصر وتكوينها باعتبارها أصل الإنسانية. عندما أتم والدي رحلته في الحياة، تمدد فوق الفراش، موجود وغير موجود، جاء الأقارب لإلقاء نظرة أخيرة، عليه، وقف أكبرهم سنا إلي جواره، انحني حتي قارب فمه الأذن التي لم تعد تسمع، غيرأنه نطق بعبارات مؤثرة، ناداه باسمه كأنه حي، ثم طلب منه ألا يشعر بالوحدة، كل هؤلاء جاءوا من أجله، ولأنه صالح، أدي رسالته في الحياة كما يجب، فلن يلقي مخاطر في الطريق، وإذا واجه بعضها فليتل بعض آيات القرآن الكريم. رغم أن الجمل من القرآن، من التراث الإسلامي، إلا أن هذا الطقس الذي مارسه أقدم أقاربنا عمراً يمت إلي معتقدات مصرية عتيقة، إلي ثقافة مصرية غائرة، يمارسها المصريون علي اختلاف معتقداتهم وهم لا يعون أنهم يستمرون بثقافة الأجداد، تماما كما ينطقون مئات الألفاظ في لغة تعاملهم اليومية وهم لا يعلمون أنها كلمات مصرية قديمة، تدخل في تراكيب خاصة أضفت الخصوصية علي العامية المصرية المتفردة في إطار اللغة العربية الفصحي. أحيانا أتوقف في الريف المصري، خاصة في الجنوب الذي ولدت فيه قرب الأقصر وأبيدوس. أمام مشهد معين لقرية، مزرعة، لطائر مرفرف، إلي قرص الشمس عند المغيب أو الشروق، إلي عودة الفلاحين من الحقول إلي البيوت، ألغي بعقلي بعض وسائل العصر. مثل أعمدة الإنارة، أو العربات إذا تصادف وجودها، عندئذ لا أري أي تناقض بين مشاهد الحياة المرسومة علي جدران المقابر. وتلك التي تطالعني، أشم رائحة الخبيز في البيوت، خاصة العيش الشمسي، طريقة الخبز المصرية القديمة، أن يوضع العجين في النهار ليرضع من الكون، من أشعة الشمس. أتنسم رائحة الحياة عند نضجه وخروجه من الفرن، أثق أنها نفس الرائحة التي عرفها الأجداد القدامي منذ آلاف الأعوام، مازال متحف تورينو يحتفظ بثمانية أرغفة من مقبرة كا. انه عين الخبز الذي فتحت عيني عليه في صعيد مصر. أتأمل وسائل حفظ الطعام، بدءا من الجبن، المش، السمك »الملوحة والفسيخ« والملوخية الناشفة، ماتزال تعد بنفس الطرق التي كانت متبعة، بل ان شكل الجلسة حول »الطبلية« وآداب الطعام لا يختلفان كثيرا عن الرسم. ذات صباح كنت في طريقي إلي مكتبي، بمؤسسة »أخبار اليوم« الصحفية حيث تقع في واحد من أقدم أحياء القاهرة، بولاق، فجأة رأيت مجموعة من النساء يخرجن من حارة جانبية، كلهن متشحات بالسواد، إحداهن شابة، فارهة الطول، تتوسط الصف الأول، وجهها ملطخ بالنيلة الزرقاء، علامة الحزن المصري القديم، تقوم بحركات تشبه الرقص، لكنه رقص ملتاع حزين، يداها تتحركان إلي أعلي، في تلك اللحظة رأيت عين المشهد الشهير للنائحات في مقبرة راموزا بالبر الغربي بالأقصر، إنه مشهد يتكرر كثيراً في المقابر التي وصلت إلينا. إنه التعبير الإنساني عن الحزن الأبدي، الحزن الأقسي نتيجة الفقر، الفقراء، الحزن المؤلم، بسببه رفض المصريون القدماء الموت، اعتبروه بداية لحياة الأبدية، أطلقوا عليه الخروج إلي النهار. إذ يتحد الإنسان بعد موته بضوء النجوم، في مصر العليا عندما يري الناس نيزكا يهوي ليلا، يقولون: إنه روح مغضوب عليها، مطرودة من راحة الأبد، أو إنها روح إنسان تخرج في تلك اللحظة، ثمة صلة بين الكون الفسيح ومظاهره. وبين الإنسان، بين أدق تفاصيل الحياة وجميع مظاهر الطبيعة. خلال تنقلي بين الحاضر الذي أعيشه، والماضي الذي أقرأ عنه. عرفت العنصرين الأساسيين اللذين يحكمان الحياة المصرية وثقافتها، إنهما الاستمرارية والتغير، عنصران متضادان، متلازمان، متفاعلان، يشكلان جوهر الحالة التي أدت إلي تأسيس أول مفردات الحضارة الإنسانية، وأقدم مفرداتها. نهر النيل بلاشك هو الشريان الرئيسي لتلك الحياة التي سعت إلي ضفتيه، إنه الإنسان الذي جفف المستنقعات، وتوصل إلي واحد من أعظم اكتشافات البشرية، الزراعة، السيطرة علي النهر الذي يشكل خطراً داهماً إذا زاد فيضانه، وإذا شح أيضا، عندما عرفت تفاصيل تتعلق بالزراعة. بوضع البذور، تنقية التربة، سقايتها، رعايتها، مقاومة آفاتها. تساءلت: كم من السنين اقتضي الأمر حتي توصل الإنسان إلي معرفة ذلك؟ لماذا في تلك المنطقة التي تلي الشلالات عند أسوان وحتي حدود البر شمالا والتقائها بموج البحر، تلك المنطقة التي نسميها مصر، أو كيميت في الزمن القديم أي الأرض السوداء؟، كم من الزمن توصل خلاله الإنسان إلي سر الزراعة، إلي ابتكار حروف الكتابة، ترميز الواقع؟ لماذا لم تظهر تلك الحضارة في مناطق أخري من النهر من منابعه الأثيوبية أو البحيراتية حتي الشلالات؟ يتعلق الأمر بالبشر الذين عاشوا في تلك المنطقة، إنهم المصريون الذين عاشوا فوق هذه الأرض، عانوا، وتأملوا حركة الكون، من شروق وغروب، تدفق مياه النهر، نزول النقطة، أول نقطة ماء في الفيضان، وصولها صيفا مع ظهور النجم سويتي، نزول النقطة يمكن اعتباره البداية للتكوين الروحي والثقافي للقوم، لا تعنيني جذورهم البعيدة، وتلك الافتراضات التي يطرحها بعض المتخصصين حول المناطق التي قدموا منها إلي الوادي، ما يعنيني إنجازهم الإنساني الذي هو ثقافي وروحي بالأساس، الثقافة بمعني محاولة فهم الكون، الموقف من الحياة. كما تتدفق مياه النيل، مرة تفيض هادرة، ومرة تشحب منحسرة، كذلك البشر، لم تنقطع المياه من المجري قط، ولم يتوقف توالي الإنسان، استمرارية الوجود، لم ينقطع وجود المصريين، وفد عليهم بشر آخرون، جري استيعاب وتغير، متغيرات تمت في هدوء، وأخري عنيفة، مؤلمة، في إحدي مراحله طال اللغة والمعتقد، والنظام المستقر منذ آلاف السنين، هزم المصريون ماديا وروحيا عندما قبلوا الإسكندر الأكبر باعتباره ابن الإله آمون، ونصبه الكهنة في واحة سيوة فرعونا، لم يكن الفراعنة من خارج حدود كيميت قط، بدأ العصر البطلمي، لكن ما استوعبت مصر الحكام الجدد، اعتنقوا رؤيتها تماما عندما نقترب من معبد حتحور في دندرة، أو حورس في ادفو، لن نشك في أنه معبد فرعوني بكل مظهره للمسافر والمكنون. وإن لم يعرف الزائر الخط الهيروغليفي فلن يدرك أبدا أن من بني المعبد هم البطالمة ذوو الأصول الأجنبية. عانت مصر من الغزو الفارسي، والأشوري، وقبائل البدو في الصحاري المحيطة، في مرحلة أخري أصبحت مصر ولاية تابعة للإمبراطورية الرومانية، وجري تغير روحي عميق عندما اعتنقت مصر المسيحية التي أري أنها إعادة صياغة للدين المصري ذاته، وعندما اعتنق المصريون الديانة الوافدة أضافوا رؤيتهم هم، وما تزال سائدة وراسخة رغم عصور الاضطهاد في العصر الروماني. كل متغير عميق يطرأ يطال السطح، وربما ينفذ قليلا، لكن بأساليب شتي يبدأ القوم في الحفاظ علي المكنون القديم، هناك في العمق، حيث لا يمكن لغزاة جدد أن يطولوه، أو يجتثوه، هذا المضمون يستمر في تفاصيل الحياة اليومية، الطعام، مفرداته، طريقة طهيه، تقديمه، الآداب المرتبطة به، في الموسيقي، في الأدب الشعبي، في المعتقدات المتوارثة عبر المرأة خاصة الأم التي تلقنها للأبناء مع حليب الرضاع، في العمارة. من اللحظات التي أطيل التأمل فيها، أتمني أن أشهد ما جري خلالها، تلك الليلة في معبد إيزيس بجزيرة فيلة بأقصي الجنوب، آخر معبد ظلت الشعائر تقام فيه لعبادة رمز الأمومة والأنوثة والتضحية، الإلهة ايزيس، التي أصبحت عند المصريين فيما بعد »العذراء« ثم السيدة »زينب« شقيقة الإمام الحسين. أصدر الإمبراطور الروماني أوامره بإبطال الشعائر المصرية في سائر أنحاء مصر، في تلك الليلة تليت الصلوات من أجل الألهة ايزيس، وترددت الترانيم، أغلق المعبد، لكن.. هل انتهت عبادة ايزيس فعلا؟ هل تواري رمز الأمومة والتضحية، الأم والأخت والزوجة الحنون، أم أنه اتخذ بعداً اشسع، أكثر رحابة؟ عندما دخل العرب مصر في القرن السابع الميلادي، كانت مصر منهكة، مثخنة بجراحها لكنها لم تكن خاوية، كان المصريون يعتنقون المسيحية طبقا لرؤية الكنيسة المصرية القبطية، كان الماضي البعيد مبهما، غامضا، اختفت دلالات أول ابجدية في التاريخ، »الهيلوغرفية« المقدسة، أصبحت مستمرة في اللغة القبطية التي امتزجت قليلا واليونانية وأخذت ابجديتها، أما العمائر الهائلة من معابد ومنشآت ومقابر فقد أختفت دلالاتها، تحولت إلي اطلال، بل انها تحولت إلي خرائب بأيدي المصريين أنفسهم، وهذا أغرب ما وقفت عليه من مظاهر الاستمرارية والتغير. عندما اعتنق المصريون المسيحية الوافدة اعتبروا الديانة القديمة معادية، بدأ بعضهم تحطيم رموزها، هذا ما نراه في الأجزاء السفلية من معبد أبيدوس علي سبيل المثال، نري اللوحات الجدارية مشوهة، خاصة العيون والأنوف، هذا معتقد مصري قديم، فعندما كان المصري يرسم شخصا ويقدم علي تسميل عينيه أو تشويههما فهذا يعني بالنسبة له حرمان الشخص نفسه من النظر والشم، أي الرؤية والتنفس، أي إعدامه. هكذا بنفس الثقافة المصرية التي ورثها المؤمنون بالدين الجديد يدمرون تراث الأجداد باعتبارهم كفارا غير مؤمنين، ثم يكتب المؤمنون الجدد تحت ما قاموا به أنهم أقدموا علي ذلك تقربا إلي الرب. عندما غزا العرب مصر وجاءوا لنشر الدين الجديد، الإسلام الذي يحرم التصوير والنحت، رغم ذلك فإنهم لم يلحقوا أذي كبيراً بالآثار القائمة، رغم اعتبارهم لها أصناما وثنية، لماذا؟ ربما تقربا لأهل البلد في البداية، وربما لسريان وقوة الأسطورة، عندما كنت طفلا صغيرا في قريتي جهينة بجنوب مصر، كان الأهالي يصفون التماثيل المصرية القديمة القائمة في الجبل بالمساخيط، أي أن هذه التماثيل كانت في الأصل بشراً ثم سخطهم الله حجارة بسبب معاصي ارتكبوها، وكان هناك آخرون يقولون إن هذه التماثيل عليها أرصاد، أي حراس من العالم الآخر تحميها وتؤذي من يقترب منها أو يتعرض لها بسوء، هذا امتداد للمعتقد المصري القديم، فتمثال أنوبيس يوضع أمام المقبرة عند المدخل ليحميها، كذلك الرسوم والتعاويذ. الآن تبدو مصر القديمة في الظاهر كأنها تمت إلي آخرين، بعض المناهج الدراسية تقول بمرحلة فرعونية وأخري قبطية وثالثة إسلامية. وفي رأيي هذا مفهوم خاطئ، فالتاريخ المصري واحد، لكن تختلف مراحله، جوهره مستمر في الثقافة العميقة، الدفينة للبشر، صحيح ان تلك الثقافة تغيرت في تلك المراحل، لكنه تغير خارجي لم يمس الصميم، تلك هي الجدلية ولب المشكلة في ثقافة المصريين. ثمة مشكلة أخري، فالرؤية العبرانية للمصريين انتقلت إلي المسيحية ثم إلي الإسلام، الفرعون أصبح رمز الطغيان وفقا للنص المقدس، سواء العهد القديم أو القرآن الكريم، في نفس الوقت يشعر المصريون بالفخر لأنهم أحفاد من أبدعوا هذه الفنون كلها، من عمارة ورسم وأدب، ذلك هو التناقض في وعي غالبية المصريين خلال العقود الأخيرة بدءا من السبعينات في القرن الماضي، مع تصاعد التشدد الإسلامي المستند إلي التعاليم الوهابية القادمة من الصحراء، خلال الثورة الوطنية الكبري عام 9191 ضد الاحتلال الإنجليزي لم يشعر المصريون بهذا التناقض، كان ابتعاث التقاليد المصرية القديمة في العمارة، في الرسم، في الابداع الأدبي، ملمحا مهما لحركة النهضة، دائما يعيد المصريون اكتشاف الجذور البعيدة عند تطلعهم إلي النهضة، في المراحل التي كانوا يجهلون فيها تفاصيل تاريخهم القديم كما نجد ذلك في العصر المملوكي، وبالتحديد في العمارة، المساجد المصرية التي شيدت في العصر المملوكي، حتي هزيمة المماليك في مواجهة الأتراك العثمانيين عام 7151 ما هي إلا استعادة لتقاليد المعمار المصري القديم، بعد اكتشاف أسرار اللغة المصرية القديمة علي يدي شامبليون، وبدء وعي المصريين بتفاصيل تاريخهم أصبحت مصر القديمة مصدر إلهام ثري، تأثرت الرؤية سلبيا بتيارين سياسيين، الأول هو القومي العربي أثناء فترة مده في الخمسينات والستينات والذي اعتبر مفكروه مصر الفرعونية نقيضا للفكرة العربية، وفي العقود الأخيرة تتبني الرؤي المعادية بعض التيارات الدينية الإسلامية المتشددة. إن وضع المراحل التاريخية لوطن قديم مثل مصر في تعارض مع بعضها البعض لمما يثير الأسي، لكنها خطايا عابرة في تقديري، فلكم مرت رياح هبوب، بعضها مدمر علي النهر والوادي والبشر، غير أن الجوهر ظل مصونا في العمق، نحتاج فقط إلي جهد لنبصره ونرصده، عندئذ نكتشف إنجاز الثقافة المصرية العميقة، الاستمرار مع التغير.