منذ عدة سنوات، خرجت حركة »طالبان» في أفغانستان، لتدمر وتنسف أعمالاً فنية تشكل جانبًا من تراث الإنسانية عبر العصور، وأيامها نكب العلم في هذا التراث الذي تم نسفه وتدميره، وفعل المتطرفون شيئًا من ذلك في مكتبات وتراث العراق بعد نكبته الكبري، وخرج علينا في مصر، في السنوات الأخيرة، من يبغي هدم الأضرحة ومقامات الأولياء والصالحين علي ما في ذلك من مساس بحرمة الأموات، ومن تدمير ما في بعض هذه الأضرحة من أعمال فنية تمثل تراثًا لمصر وللإنسانية. ثم بدأ هؤلاء يتطلعون إلي التماثيل بغية هدمها اقتداءً بحركة »طالبان» وما صنعته في أفغانستان من تدمير لتراث الإنسانية، تحت شعار أن التماثيل وأعمال النحت والتصوير ضربٌ من ضروب الوثنية المحرمة في الإسلام، والمناقضة من ثم لما ينبغي من توحيد وعبودية للمثل الأعلي رب العالمين. الإسلام والوثنية لا مراء في أن الإسلام، وهو عقيدة التوحيد، قد نهي عن الكفر وعن كل صور الإشراك بالله رب العالمين، وتتابعت في القرآن الحكيم الآيات التي قَبَّحَت الكفر وشجبته، ونهت عن الإشراك بالله، ودعت الناس إلي الإيمان بالله الواحد الأحد، وعدم الإشراك به بأية صورة من صور الشرك، ومنها كافة صور الوثنية التي كانت تقيم أصنامًا إما تعبدها من دون الله، أو تتخذها وسيلة لعبادتها والتشفع بها في قرباتها إلي الله. ولكن الإسلام لم ينه عن الكمال والجمال، ولم يدع إلي القبح أو يقبله، بل يقدر الجمال ولا ينهي عن تذوقه. وفي الكفر الذي نهت عنه وقاومته كل الأديان السماوية، وتنزل الإسلام للقضاء عليه والدعوة إلي الإيمان والتوحيد بالله، ورد فيما ورد من آيات القرآن الكريم: »وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» (آل عمران 97). »فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (البقرة 258). »مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» (الروم 44). »أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ...» (الكهف 37). »وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ» (إبراهيم 7). »وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّار» (البقرة 39). »إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ» (البقرة 161). والإشراك بالله، فرع علي الكفر، فهو نوع منه، وفي هذا الشرك يقول القرآن المبين: »سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ» (آل عمران 151). »وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ» (الأنعام 22). »سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا» (الأنعام 148). »وَإِذَا رَأي الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكََ » (النحل 86). »قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِه» (الرعد 36). »لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا» (الكهف 38). »قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا» (الجن 20). »وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا» (النساء 36). غاية النهي عن الأصنام وما شابهها لا يفوت من يتمعن في آيات القرآن الكريم، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، أن النهي عن الأصنام وما شابهها، جاء مقرونًا بما جري من عبادتها، أو التوسل بها إلي الله، أو اتخاذها سبيلاً للإشراك به جل وعلا. وهذا الاقتران بين الوثن والعبادة، صريح في الآيات القرآنية التي شجبت الأصنام ونهت عنها وعن كل صور الوثنية. من ذلك: »فَأَتَوْاْ عَلَي قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَي أَصْنَامٍ لَّهُمْ» (الأعراف 138). »رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ» (إبراهيم 35). »وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً» (الأنعام 74). »قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ» (الشعراء 71). وتلحق الأنصاب بالأصنام، فجاء النهي الصريح عنها لما فيها من إشراك: فالنصب هو ما نصب وعبد من دون الله، وما كان يذبح عليه من الأوثان في الجاهلية. وورد ضمن المحرمات في القرآن: »وَمَا ذُبِحَ عَلَي النُّصُبِ» (المائدة 3).. فمرجع التحريم والنهي عنها واضح لما يلابس هذا الدور الذي كانت متخذة فيه، لذلك ورد في القرآن المجيد: »إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ» (المائدة 90). أما الأزلام فجمع زلم، والزلم لغةً في المعني المقصود: السهم الذي لا ريش له، وكان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلام، وكانوا يكتبون عليها الأمر والنهي ويضعونها في وعاء، فإذا أراد أحدهم أمرًا أدخل يده فيه وأخرج سهمًا، فإذا خرج فيه السهم بما يريد مضي لقصده، وإن خرج ما فيه النهي كفَّ عما كان ينتويه، ولذلك ورد في الآية الثالثة من سورة المائدة: »وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ». (المائدة 3). ولكن هذا التحريم ينصرف إلي الزلم والأزلام بهذا المعني، ولا ينصرف إلي المرادفات اللغوية لمعني الزلم والأزلام، ففي المعاجم أن فعل زَلَم زلمًا أي أخطأ، ويقال زلم أنفه: أي قطعه، أو زلم عطاءه أي قلَّلَه، أو زلم السهم أي سواه وأجاد صنعته، أو الإناء وغيره. فهو مزلوم وزليم، ويقال زَلِمَ زَلمًا: كان له زلمة. فهو أَزْلم، وهي زلماء. وزَلَّمه: زلمه. وتُقال عن الإبل بمعني قطع أذنها وترك زلمة لها. وعن الرحي: دَوَّرها وأخذ من حروفها، والأزلم: الوعل، والدهر شديد البلايا، والزلماء مؤنث الأزلم وتقال عن أنثي الوعل وأنثي الصِقر. ولفظ »الزّلُمة» يعني: الهيئة، وتقال أيضًا عن »الهَنَة» التي تتدلي من عنق المِعْزي ولها زلمتان. أما الزلم وجمعها أزلام الواردة بالآيتين 3، 90 من سورة المائدة، فهو بالمفهوم الاصطلاحي الذي عرضناه وهو عملية الاستقسام أو الاقتراع بالأزلام أي بالأسهم، ولا ينصرف إلي كل هذه المرادفات اللغوية التي لا علاقة لها بعملية الاقتراع والاستقسام بالأزلام. فالنهي موقوف علي هذه العملية وعلي دور الأزلام فيها، وليس نهيًا عن كل هذه المعاني التي وردت في معاجم اللغة وفي الحياة. مفهوم النهي وعلته واضح فيما استعرضناه من آيات القرآن الحكيم، أن النهي عن الأصنام، وكذلك الأنصاب لم ينصرف إلي »نقش» أو »مثال» أو »هيئة»، ولم تُعن الآيات القرآنية بشيء يتعلق بالشكل وما يبذل في نقشه أو تزيينه، وإنما انصرفت الآيات في صراحة ووضوح إلي الكفر الملازم لهذه الأصنام والأنصاب، بعبادتها أو اتخاذها آلهة أو العكوف لها. فلم يكن النهي عن »فن» مرعي في هذه الأصنام والأنصاب، وإنما عن تأليهها وعبادتها أو التوسل بها إلي الله. وليس في القرآن الحكيم، لا في صحيح السنة النبوية، ما يقبّح الجمال أو ينهي عنه أو عن تذوقه، فالجمال آية من آيات الله، تدل علي بديع خلقه، وإلي ما أودعه في مخلوقاته من قدرة علي محاكاة الجمال والإبداع فيه، وهو يدلي إلي الإيمان لا إلي الكفر أو الإشراك بالله، وتجد كلمة جميل متعددة في القرآن، فوصف بها العبد الصالح المستعين بالله في قوله تعالي: »فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَي مَا تَصِفُونَ» (يوسف 18). »فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَي اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا» (يوسف 83). »فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً» (المعارج 5). ووصف بها الصفح: »فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ» (الحجر 85). ووصف بها التسريح بإحسان: »فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً» (الأحزاب 28)، »فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً» (الأحزاب 49). ووصف بها تلطيف الهجر، فجاء بسورة المزمل: »وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا» (المزمل 10). والأصنام والصور التي هدمت أو أزيلت من الكعبة يوم فتح مكة، أو ما هدم من الأصنام في شبه الجزيرة العربية، لم يكن لجمالٍ أو بهاءٍ أو حُسْن فيها، وإنما لأنها كانت تُعبد من دون الله، أو تتخذ شفاعة إليه أو إشراكًا به عز وجل. وهذه المعاني غابت وتغيب عمن يتخذون موقفًا معاديًا من الأعمال الفنية التشكيلية دون بحث أو تفرقة، فهي إن كانت تنشد جمالاً وإبداعًا فإن ذلك يستحضر الإيمان ولا يعاديه، ويدعو للتأمل وتذوق ما أودعه الله في مخلوقاته من قدرات إبداعية، ولا يدعو للكفر أو الإلحاد أو الإشراك!!