رجال الأمن في حاجة للحماية والأمن.. هذه حقيقة يكشف عنها المأزق ثلاثي الأبعاد الذي تعيشه الشرطة وقوات الأمن خلال هذه المرحلة العاصفة من تاريخ مصر. إذا قامت قوات الأمن بالدفاع عن نفسها في مواجهة المظاهرات الغاضبة التي يندس بداخلها بعض البلطجية، فإنها تتهم بممارسة القمع وقتل المتظاهرين وتقع تحت طائلة غضب المجتمع وعقاب القانون.. وإذا تحلي رجال الشرطة بفضيلة الصبر وضبط النفس في مواجهة التجاوزات الغاشمة التي يتعرضون لها فقد يدفعون حياتهم ثمنا لذلك.. وآخر أضلاع المأزق الذي تعيشه الشرطة يتمثل في انه إذا امتنع رجالها عن الدفاع عن المنشآت والأرواح تفاديا للاحتكاك بالغاضبين تتم محاكمتهم بتهمة الامتناع عن حفظ الأمن والتخاذل.. وهناك أزمات أخري تواجه حماة الأمن تحول دون قيامهم بدورهم علي الوجه الأكمل، ومنها نقص الامكانيات والتسليح وغياب التدريب. »أخبار اليوم« من خلال هذا التحقيق تسأل: كيف يمكن ان ننزع هذه الأغلال من يد الشرطة لضمان قيامها بدورها في حماية الأرواح والممتلكات؟!.. وما الاستراتيجيات والسبل التي يقدمها خبراء الأمن ورجال القانون لتحرير الشرطة من هذا المأزق؟ يقول اللواء أحمد نبيل مساعد وزير الداخلية السابق لأمن القاهرة: الشرطة طوال عمرها تحاول تخفيف السلاح في يد أفرادها في الشارع، ولذلك تم الاستعانة بالعصي الكهربائية، وتم سحب سلاح رجال الشرطة واستبداله ببدائل غير قاتلة خوفا من إصابة أي بريء بأذي، ولكن في الفترة الأخيرة تم تسريب أسلحة آلية ثقيلة ومتطورة من خلال الدول المجاورة، فأصبح السلاح القاتل في حوزة المواطن، وأصبح الشارع يعج بالأسلحة، بينما الشرطة ملتزمة بحالة ضبط النفس منذ بداية الحراك السياسي في مصر، رغم تعرض رجال الشرطة للاعتداءات والإهانات. ويضيف اللواء أحمد نبيل: أي تعد علي رجل الشرطة في أي مكان في العالم يعد تعديا علي الدولة، فنحن اليوم في مصر نضعف هيبة الشرطة ونلزمهم بضبط النفس حتي لو تعرضوا للاعتداء وبدون مبرر.. وهذه الحالة من التراخي المستمر إزاء الأحداث لتصل إلي التعدي علي الأقسام والسجون، وأصبحت الشرطة جهازا يلملم شتاته ليستطيع حفظ ماء وجهه مما أصاب الضباط بالإحباط.. ويطالب بضرورة تفعيل القانون الذي ينظم التظاهر، فالشرطة مكتوفة الأيدي بينما مفاصل الدولة في حالة شلل تام والدولة تصدر قوانين لا تستطيع تنفيذها، مما يصيب الدولة بالوهن فقرار مثل فرض حظر التجوال لابد ان يفرضه الجيش والشرطة، وهي الجهات المنوط بها تنفيذ هذا القرار، ولكن لم يتم إخطار الجهتين بهذا القرار قبل فرضه لإبداء رأيهم عن قابلية تنفيذه. ويري اللواء أحمد نبيل أن الحل الحقيقي يبدأ برفع معنويات رجال الشرطة بإعادة الهيبة لهم، مع ضرورة الاستمرار في سياسة إجراء لقاءات بين قيادات الدولة ورجال الشرطة لإعطائهم دفعة لتأكيد أهمية دورهم وأن يتوقف الإعلام عن مهاجمة جهاز الشرطة ورجاله وإظهار الحقائق من جميع جوانبها وليس من جانب واحد، والتزام الحيادية لوقف حالة الاحتقان بين المواطن والشرطة. إشكال مهني ويفند اللواء عبداللطيف البديني مساعد وزير الداخلية السابق والخبير في الأزمات الأمنية من الناحية السياسية ما يحدث قائلا: الإشكال الذي وقع فيه جهاز الشرطة وقيادات الداخلية كان إشكالا مهنيا، فما رصدته خلال الفترة الماضية منذ 62 يناير يوم صدور الحكم في مذبحة بورسعيد، ان المهنية كانت تقتضي تسكين المتهمين في القضية في عدة سجون مختلفة وليس تجميعهم في مكان واحد كإجراء وقائي، وما حدث نتيجة عدم اتخاذ اجراءات وقائية كان شيئا متوقعا حدوثه، خاصة أن أهالي بورسعيد اعتبروا ان المحاكمة شيء يمسهم بصفة خاصة، ولذلك فقد بدت رائحة التعمد في إحداث الفوضي، أو الجهل في إدارة الأزمات وكلا الأمرين غير مقبول في الشرطة.. كما ان التعامل بعنف مفرط مع المتظاهرين قد أعاد الشرطة للمربع رقم صفر، وعدنا لاتهام الشرطة بأنها جهاز قمعي يعمل ضد الشعب، ولذا فأنا أقول إن جميع تعاملات وزارة الداخلية غير مهنية وغير متقنة، يمكن ان تنسب للهواة وليس لمحترفين! ويضيف اللواء البديني قائلا: وهناك حالة من العصيان بين الضباط والأفراد نتيجة شعورهم بالظلم، وأن هناك إصرارا للزج بهم في صراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل، فالصراع الحالي ليس صراعا بين مواطن وشرطة، لكنه صراع بين ميليشيات تحمل أسلحة. ويري البديني ان حل الأزمة الحالية لن يحدث إلا بوقف اقتحام الشرطة في معترك الحياة السياسية، وأن ترفع النخبة السياسية أيديها عن وزارة الداخلية، لأن ما يحدث حاليا سيؤدي لتنفيذ مخطط كونداليزا رايس السابق بتقسيم مصر لأربع دول، ويجب ان يقتصر عمل الشرطة علي تنفيذ القانون وتأمين الأفراد والمنشآت المهمة وجمع المعلومات عن العناصر الخطرة فقط. هيبة الشرطة ويقدم اللواء عبدالسلام شحاتة مساعد وزير الداخلية ومدير أمن القاهرة الأسبق رؤيته لأزمة الشرطة قائلا: يجب وقف التجاوزات في حق الشرطة وإخراجها من لعبة السياسة علي أن يتوقف الإعلام عن استفزاز رجال الأمن، فهناك محاولات لتحريض الضباط علي التمرد أسوة بالأمن المركزي بهدف إحداث مواجهات دامية لإسقاط الدولة، ويجب ان يعلم الشعب ان الشرطة ليست في مواجهة مع الشعب، بل في مواجهة مع مجرمين مسلحين ومسجلين خطر، ويهاجمون رجال الشرطة الذي أصبح هو الطرف الأضعف لأنه غير مسلح بينما يواجه عناصر مسلحة! وبعيدا عن السياسة ويؤكد اللواء محمد زكي مساعد وزير الداخلية السابق لقطاع المنافذ، ان هناك حالة استعداء تام ضد الشرطة، رغم ان الشرطة مؤسسة مصرية ورجالها يعانون من جميع المشاكل التي يعانيها المواطن العادي.. وحل مأزق الشرطة الحالي لن يأتي إلا بابتعاد الشرطة عن معترك السياسة، ووقف اقحام الشرطة في صراع القوي السياسية، فالشرطة يجب ان تعمل في بيئة سياسية منزوع منها كل عوامل التوتر وفي وضوح للرؤية، أما إذا كانت الأوضاع الاجتماعية والسياسية محتقنة، فإننا نعرض رجل الشرطة لتحمل ما لا يطيق، ولذلك وصلت حصيلة شهداء الشرطة إلي 471 قتيلا و0065 جريح منذ ثورة يناير، مما يتطلب ان نضع في الاعتبار اننا في أزمة تتطلب دراسة متأنية لبحث أسباب حدوثها وكيفية العمل علي احتوائها.. كما يحتاج حل المأزق لوجود نصوص دستورية لحماية رجل الشرطة أثناء تأدية عمله، ليعمل بأمان. بالإضافة لضرورة تسليح رجل الشرطة، وأن يترك لها حق تحديد العناصر الإجرامية المطلوبة في الشوارع ليتمكن رجال الأمن من تفريغ البلد من العناصر الخطرة والأسلحة غير المرخصة.. كما يجب وقف حالات التجرؤ علي الشرطة، وألا يسمح بوجود ما يسمي بائتلافات للضباط أو أمناء الشرطة خارج نطاق وزارة الداخلية، لأن هذه المسميات هي ما سهلت اجتراء أفراد من الشرطة علي مديري الأمن وكسر هيبة الشرطة، وأخيرا لابد من اختيار قيادات قوية للشرطة تمتاز بالحرفية، ولها خبرة في العمل الميداني، لتتمكن من فرض الأمن والنظام، فالشرطة منظومة عسكرية نظامية لا يجوز فيها الخروج عن السطر، ويجب ان تبقي علي قلب رجل واحد، لأن أي انقسام سيحدث انهيارا لكيان الدولة بأكمله. حماية رجال الأمن ويقول اللواء ضياء عبدالهادي مساعد وزير الداخلية الأسبق للأمن العام: يكاد رجال الشرطة ينفردون بكونهم الفئة الوحيدة المؤقتة في مصر حتي اليوم.. وذلك وفقا لقوانين الشرطة التي أصبحت تقوم بتجديد العقد سنويا لرجال الأمن بداية من رتبة عقيد، وبالتالي فهو يعمل دون الشعور بالأمن والاستقرار الاجتماعي، وفاقد الشيء لا يعطيه، ومع ذلك فهو مطالب بتأمين غيره، رغم كونه يشعر بالخوف من مواجهة كل مواطن غاضب من الدولة، وينفث غضبه بالانتقام من رجال الشرطة لأنهم رمز الدولة، هذا بخلاف ان ضابط الشرطة إذا قتل في أي مهمة، فستتقاضي أسرته مبلغا هزيلا كمعاش لا يسد احتياجات أبسط أسرة. ويري اللواء ضياء عبدالهادي ان حالة الاحتقان بين المواطن ورجال الشرطة تسبب فيها بعض تصرفات رجال الشرطة أنفسهم من التعامل بتعالي وعجرفة من قبل البعض، ولذلك فجهاز الشرطة في حاجة لتغيير أسلوبه وكسب ثقة الناس.. في المقابل وحتي نحل مأزق الشرطة لابد من تأمين حياة رجال الشرطة بملابس واقية من الرصاص، وحماية أرواحهم، كما لابد من صدور تشريع خاص يؤمن رجال الشرطة في تعاملهم مع الخارجين عن القانون أو مع من يعتدون عليه، كما يجب إلغاء عقوبة الحبس الاحتياطي للضباط، لأنه موظف عام وله موقعه ورتبته، ولابد ان يتم تمييزه لأنه دائما في مواجهة الخطر، كما يجب تطبيق المادة 901 من قانون الشرطة التي تحدد حالات ضرب النار. ويحدد اللواء عبدالهادي نقاط حل إشكالية مأزق الشرطة الحالي، قائلا: لابد من إجراء مصالحة بين الشرطة والشعب وأن تكف وسائل الإعلام علي الحض علي كراهية الشرطة وتأجيج نيران الاحتقان والانتقام من رجال الشرطة باعتبارهم أعداء للشعب. قانون بلا تنفيذ ويقول المستشار رشدي عمار رئيس محكمة جنايات الجيزة ان التشريع الحالي كفيل بمعاقبة من يقوم بالاعتداء علي ضباط وأفراد الشرطة وتجريمهم وذلك طبقا للمادة 731 من قانون العقوبات التي تجرم أية مقاومة لرجال الشرطة أثناء أداء عملهم. مشيرا إلي ان العقوبة تصل إلي الاشغال الشاقة المؤبدة في حالة استعمال العنف والقوة ضد رجال الشرطة.. وأضاف انه منذ وضع قانون العقوبات وهناك تجريم للاعتداء علي رجال الشرطة، ولكن العبرة بتطبيق نصوص القوانين، فمن حق الضباط الدفاع الشرعي عن النفس أو المال أو حتي مال الغير أو نفس الغير، فعند قيام شخص بالاعتداء علي آخر ومحاولة سرقته مثلا وتحرك شخص آخر للدفاع عن الضحية فلا يعاقب إذا أصابة أو قتله، لأنه يكون في حالة دفاع شرعي عن نفس الغير، كذلك بالنسبة لرجال الشرطة الذين يدافعون عن منشآت الدولة أو الافراد فلا تتم معاقبتهم.. مشيرا إلي ان هناك من يتحدث عما يسمي بمهرجان البراءة للجميع في قضايا قتل المتظاهرين، فعلينا ان نعلم ان القاضي في النهاية يحكم وفقا للأوراق والمستندات ولا ننسي ان هناك بعض الأحداث كان فيها من قام بالاعتداء علي رجال الشرطة وعلي المنشآت وأقسام الشرطة. وأكد ان التعامل مع المخربين هو الذي يجب ان يتم باستخدام العنف ولا يجرمه القانون بخلاف المتظاهرين السلميين، الذين يكفل القانون حق التظاهر بالنسبة لهم موضحا ان الأمور اختلطت لدينا بدرجة كبيرة وأصبح البلطجية يندسون وسط المظاهرات السلمية لتنفيذ أغراضهم وتشويه صورة المتظاهرين الحقيقيين. دفاع شرعي ويقول المستشار رفعت السيد رئيس محكمة استئناف القاهرة سابقا إن رجال الأمن لهم حقوق كاملة في التصدي للبلطجية لأنهم في حالة دفاع شرعي عن النفس مطالبا القيادة السياسية بأن تعلن ان من حق رجال الشرطة التصدي للمخربين بالرصاص الحي وليس الخرطوس لأن من حقهم حماية المنشآت بجميع الوسائل طبقا للقانون وأن يتم تقديم من يعتدي علي رجال الشرطة للمحاكمات وليس العكس. ويؤكد المستشار السيد علي ضرورة تسمية من يعتدي علي رجال الأمن بالتسمية الحقيقية لهم، فهؤلاء ليسوا متظاهرين وإنما مجرمون.. مشيرا إلي ان القانون يعاقب من يعتدي علي موظفين عموميين بالسجن المشدد لمدة 51 عاما فأي مواطن يطلق الرصاص علي الشرطة أو مولوتوف أو حتي حجارة لابد من معاقبته وفقا لقانون العقوبات. ويضيف المستشار رفعت السيد: لابد ان تشكل محكمة سريعة لهؤلاء المخربين وهي محكمة خاصة طبقا للاجراءات القضائية العادية ووضع البلطجية تحت طائلة القانون.. لدينا تشريعات وقوانين، ولكن لابد ان ننفذ القوانين بحزم.. ولا يجب اقحام الشرطة في الخلافات السياسية لأن مهمتهم ليست المطالبة بإسقاط الحكومة أو تعديل الدستور ولكنهم يهتمون فقط بحفظ الأمن وحماية المواطنين، وبعض هؤلاء المواطنين من المتظاهرين انفسهم فلا يكون جزاؤهم انهم يتم الاعتداء عليهم وقتلهم، بل لابد من محاكمة والضرب بيد من حديد علي من تسول له نفسه العبث بالوطن وقتل الأبرياء. تطبيق القانون ويتفق معه في الرأي المستشار جمال رمضان الرئيس بمحكمة استئناف القاهرة.. مشيرا إلي ان رجل الشرطة أصبح حائرا ولا يعرف كيف يتصرف، فهو أمام اختيارات أحلاها مر، فإما ان يقوم بدوره في حماية المنشآت وفي هذه الحالة سيتهم بقتل المتظاهرين وإما ان يترك الخدمة ووقتها سيتهم بالتخاذل وعدم القيام بدوره أو يترك نفسه ليتم قتله من جانب البعض. وقال: التشريعات التي لدينا كافية للردع ولكن لابد من تطبيق نصوص قانون العقوبات بحزم علي الجميع فهناك فرق بين التظاهرات السلمية وبين التخريب والبلطجة. وأشار المستشار جمال رمضان إلي ان عقوبة الاعتداء علي رجال الشرطة تصل إلي الاشغال الشاقة المؤبدة وهناك عقوبات تصل إلي الإعدام عند الحرق والقتل والاعتداء علي المنشآت والمال العام.