سمير صبرى كلما اقترب شهر رمضان أتذكر طفولتي في الاسكندرية عندما كانت »عروس البحر الأبيض« بحق وحقيقي وأتذكر استعداد شعب الاسكندرية لاستقبال الشهر الكريم! في بحري مثلا وفي ساحة المرسي أبوالعباس سرادق كبير بداخله مسرح يقدم عليه بعض الفنون الشعبية الاسكندراني من أغاني ورقصات وألعاب أكروباتية وتقدم مجانا لمن يدخل السرادق.. وحول السرادق عدد من البائعين يقدمون الخروب والتمر هندي والذرة المشوي والتين بشوكه والترمس.. الخ. وبجوار محكمة المنشية وعلي مساحة أرض فضاء كبيرة جدا كانت تقام مدينة ملاهي فيها عدد كبير من الألعاب إلي جانب مسرح صغير يقدم عليه عروضه المسرحية الغنائية الثنائي حسين ونعمات المليجي والفنان فوزي منيب! وفي الأزاريطة علي البحر كانت مدينة »كوتة« للملاهي وبها عدد أكبر من الألعاب المبهرة وأيضا مسرح صغير يقدم عليه عروضه الفنان حمام العطار والذي كانت تضم فرقته عددا من مشاهير فناني الاسكندرية مثل نعيمة الصغير فايد محمد فايد عبدالرحيم كبير الرحيمية وولده عبدالموجود (محمد التابعي وعمر الجيزاوي) ومحرم حسين (محرم فؤاد«!! وكانت كل الكازينوهات والمقاهي علي البحر تقدم وجبات الافطار أو السحور مع برنامج ترفيهي غنائي يصلح لكل أسرة ومن نجوم هذه الكازينوهات كانت سعاد وعطيات حسين ودرية أحمد (والدة النجمة سهير رمزي) والفنان علي الكسار! أما صلاة المغرب والتراويح والفجر فكانت فرصة لمباراة بين شيوخ أبوالعباس وسيدي جابر وسيدي بشر وسيدي ياقوت وكانت هذه المساجد تقدم وجبة دسمة من الثقافة الدينية العصرية يقدمها مجموعة كبيرة من رجال الدين وكانت لها شعبية كبيرة عند كل أهل الاسكندرية حيث كانت تحرص كل أسرة علي حضور تلك الندوات التي كانت دائما تنتهي قبل موعد السحور طبعا!! وكان لرمضان في الاسكندرية سحر خاص يغري الفرق المسرحية الشهيرة علي إقامة موسم كامل طوال الشهر الكريم.. يوسف وهبي وفرقة رمسيس يقدم كل ليلة مسرحية مختلفة ومعه أمينة رزق وعلوية جميل ومحمود المليجي ومحسن سرحان. وتخيلوا كل ليلة مسرحية مختلفة وبرنامج مطبوع يتم توزيعه علي المنازل وكانت عروضه طوال شهر رمضان وأيام العيد دائما كاملة العدد!! ويستمتع المجتمع الاسكندري بروائع عميد المسرح العربي (بنات الريف أولاد الشوارع المائدة الخضراء بيت الطاعة 72 شارع البهلوان الأفوكاتو مديحة).. الخ. كان هناك وعي وتقدير لكل فن راق وهادف! أما المسرح القومي في كامب شيزار فكان صاحبه المعلم صديق أحمد يقدم وجبة غنائية استعراضية ضخمة تضم عبدالعزيز محمود أو كارم محمود تحية كاريوكا شكوكو لبلبة فايدة كامل وعلي هذا المسرح بدأ عبدالحليم شبانة (حافظ فيما بعد) تقديم وصلة غنائية في أول البرنامج ومعه علي العود الفنان محمد الموجي يقدم فيها أشهر أغنيات محمد عبدالوهاب ومحمد فوزي وذات ليلة أراد عبدالحليم أن يغني بعض أغانيه الخاصة من ألحان الموجي (صافيني مرة ظالم علي قد الشوق) ولكن هذه الأغاني لم تعجب المعلم صديق فطرد عبدالحليم الذي جلس أمام المسرح يبكي إلي أن حضرت تحية كاريوكا وعندما عرفت ما حدث أخذت عبدالحليم من يده ودخلت به إلي المعلم صديق وأمرته بإعادة عبدالحليم ليقدم ما يريد من أغانيه الخاصة وإلا هي أيضا ستترك العمل!! واضطر المعلم صديق أن يعيد عبدالحليم للعمل وكان موقف »جدعنة« رائع من تحية كاريوكا رواه لي عبدالحليم شخصيا وظل محتفظا لها بهذا الجميل!! وتشجع العملاق نجيب الريحاني وقام بإنشاء مسرح الريحاني في الابراهيمية حيث واصلت الفرقة تقديم عروضها عليه يوميا حتي بعد رحيل الريحاني وكانت كل هذه الفرق تأخذ إعانة من محافظة الاسكندرية لجذب السياحة الصيفية بوجود هذه الفرق العظيمة للترفيه عن المصطافين!! وفجأة قرر أصحاب الأرض المقام عليها مسرح الريحاني هدم المسرح لإقامة عمارة سكنية واشترطت المحافظة أن يقام تحت العمارة »مسرح الريحاني« طبقا للقانون الذي يمنع هدم مسرح أو سينما وتم هدم المسرح وظهرت عمارة سكنية كبيرة ولم يتم بناء مسرح تحتها يحمل اسم العبقري الريحاني طبقا للقانون ولم يعترض أحد.. لا المحافظة ولا النقابة ولا حتي أعضاء فرقة الريحاني أو من تبقي منهم!! وهكذا انتهت أسطورة اسم نجيب الريحاني علي كورنيش الاسكندرية.. بينما حافظ الفنان أحمد الابياري علي اسم نجيب الريحاني فوق مسرحه بشارع عماد الدين في القاهرة!! وتكرر نفس الشيء مع الفنان الكبير اسماعيل يس الذي أنشأ مسرحا يحمل اسمه علي كورنيش الاسكندرية ليقدم عليها عروض فرقته طوال فترة الصيف وكانت فرقته تضم نخبة رائعة من كبار النجوم تحية كاريوكا محمود المليجي القصري زينات صدقي حسن فايق سناء جميل.. الخ. وفي الستينيات.. ساءت حالة اسماعيل يس النجم الذي حمل اسمه عناوين أكثر من 52 فيلما سينمائيا.. ساءت حالته الصحية والمادة واضطر اسماعيل أن يبيع المسرح والأرض طبعا وتكررت مأساة الريحاني.. مين اشتري الأرض.. مش مهم واحد عنده فلوس وخلاص ولا يعنيه تاريخ اسماعيل يس ولا المحافظة علي اسمه.. وظهر العقار الكبير بعدة أدوار ووقف من اشتري الأرض.. صاحب الفلوس الكتير ليقول: أنا مع القانون وسوف ابني مسرحا تحت العمارة.. وفعلا تم بناء مسرح لا يسع أكثر من 003 شخص وفضل أن يقيم عليها أفراح شعبية لأنها تحقق الربح الأكبر وطبعا تم إزالة اسم اسماعيل يس من علي مدخل ما يسمي مسرح ووضع البيه المقاول شاري الأرض اسمه.. اسمه هو بدلا من اسم اسماعيل يس.. النجم.. صاحب الأفلام التي تحمل اسمه.. صاحب المسرحيات الرائعة التي كتبها العبقري أبوالسعود الابياري والتي مسح اشرطتها التليفزيون!! وأنا مش فاهم ليه الاصرار علي هدم وتدمير كل ما هو جميل وكل ما هو تاريخ!! ليه عيوننا دلوقتي ما بتشوفش الجمال ولا تقدره وحتي لو شفناه عايزين نحوله إلي قبح.. إلي هدم وتدمير حقيقي ليه أصبحنا أعداء أنفسنا.. أعداء للجمال والرقي والثقافة والتاريخ.. أعداء لبعضنا.. ماحدش طايق حد.. ماحدش بيحب.. الكل بيكره.. مع ان ايد الحب دائما تبني وايد الحقد هي التي تهدم..!!