مصر بالرغم من عبقرية مكانها، إلا أنها ليست تلك المساحة من الأرض التي تتوسط العالم فقط، ويمثل مرور نهر النيل بها جزءا مهما من عبقرية مكانها، إلا انها ليست هبة النيل، كما قال المؤرخ الإغريقي هيرودوت، فالنيل يمر بدول أخري، وهناك العديد من الدول التي تمر بها أنهار مختلفة.. أما الحقيقة الوحيدة الواضحة، فإن مصر هي هبة المصريين، وهم الذين صنعوا حضارتها واستغلوا نيلها وثرواتها ليقدموا للعالم تجربة حضارية غير مسبوقة، ومازالت تبهر العالم حتي الآن. وكثيرون هم الذين اعتقدوا علي مر التاريخ أن شعب مصر غافل ونائم، ثم أثبت هذا الشعب العظيم أن هؤلاء هم الغافلون، وأنهم لم يفهموا هذا الشعب، ولم يعطوه حق قدره، وانتهي هؤلاء واندثر تاريخهم، واكتفي التاريخ منهم ببضعة سطور سوداء، أما الشعب فقد خرج من كل أزمة رافعاً هامته ومنتصراً، وأكد في كل مرة أنه »السيد«.. ومع ذلك يظل البعض مصراً علي إلغاء الإرادة الشعبية من حساباته، وعدم الاستفادة من دروس التاريخ، التي تؤكد دائما أنه لا صوت يعلو علي صوت الشعب، ولا إرادة تعلو علي إرادة الشعب، الذي سيظل دائما فوق الدستور وفوق القانون، لأن كليهما إنما يوضعان من أجل الشعب. وما شهدته مصر مؤخراً من صدور الإعلان »غير« الدستوري »المكبل«، لم يكن إلا انقلابا علي الإرادة الشعبية لمصر، التي اختارت نوابها في انتخابات برلمانية شهد لها العالم كله بالحرية والنزاهة، ومع ذلك فقد تم إلغاء هذه الإرادة وأهدرت أصوات أكثر من ثلاثين مليونا من المصريين، وكله بالقانون الذي يجيد »الترزية« أن يجعلوه إما تفصيلا وعلي المقاس، وإما فضفاضا بحيث يرتديه كل من أراده الترزي أن يرتديه، وإما »أستك منه فيه« يتسع حين يريده الترزي واسعاً، ويضيق حينما يريده الترزي ضيقا! لقد كانت هناك فرصة ذهبية لقادة المجلس العسكري، لكي يدخلوا التاريخ من أوسع أبوابه، ولكنهم للأسف أهدروها، في إصرار غريب علي استمرار جمهورية »العسكر« التي قادت مصر إلي أكثر من هاوية.. ولكن ليعلم الجميع أن الشعب المصري كما تعودنا منه دائما سوف يخرج منتصراً وقوياً وقادراً علي الاستمرار في مسيرته الحضارية، ومهما طالت ساعات الظلام، فالنور آت لا محالة، والله متم نوره ولو كره أعداء الشعب.