إنها المهمة القدسية الجليلة، والهدف الأسمي النبيل، إنها وظيفة الأنبياء، ومقصود العلماء، والهم الشاغل للفلاسفة، إنها أشرف الصناعات وأنفسها، وهي أعرق وأقدم صناعة عرفها الإنسان ووعاها، صناعة الإنسان صناعة ثقيلة، طويلة الأمد، تحتاج إلي خبرات عميقة، وصبر طويل، وخريطة معرفية مدروسة، وحشد للمعلومات والمهارات والأخلاقيات، مع عوامل كثيرة من الأجواء المحفزة للإبداع والتألق، والتي تلبي احتياج الإنسان، وترفع عنه الضغوط النفسية الخانقة للإبداع، والتي تصيبه بالإحباط أو الفتور أو فقدان الأمل، أو الشلل النفسي والخمول المعنوي، وصناعة الإنسان هي المهمة القدسية الأولي لأنبياء الله ورسله، فإن المقصد الأول من ابتعاثهم من الله تعالي إلي أممهم وأقوامهم بكل ما يحملونه من مضمون رفيع، يشتمل علي مواريث النبوة، وأبواب العقائد والأخلاق، هو صناعة هذا الإنسان، وتحريره من أوهامه النفسية، ومن متاهاته الفلسفية، ومساعدته علي صناعة عقل مستنير يستطيع التوصل إلي تكوين الصورة الكاملة في كل شيء يتعامل معه أو يحتك به، وصناعة نمط من السلوك الإنساني الرفيع، يكمن وراءه عقل متألق، وطموح كبير، وهمة عظيمة، وفكر منير، ومعرفة بالله، وتعظيم لشعائره، وصناعة للحضارة، وهيام بالعمران، وعشق للعلوم، وتطهير للإنسان من كل شوائبه النفسية التي هي من قبيل الكراهية والحقد والشحناء والانتقام والتشفي والمكر والتحايل، وكل ورثة الأنبياء من العلماء والأولياء والصالحين، وكذلك كل خبراء التعليم، وفلاسفة التربية، وصناع المعرفة فإنهم يدورون في هذا الفلك، ويضاف إليهم سائر المدارس العلمية والجامعات الكبري والمعاهد، العاكفة علي تعليم الأجيال، وحشد عناصر صناعة الإنسان، كل ذلك في مختلف الحضارات والثقافات والشعوب، فإن هذه المصانع المعرفية جميعا تعمل لأجل ذلك الهدف الكبير والجليل والعظيم والذي هو صناعة الإنسان، مهما اختلفت الرؤي والمنطلقات والفلسفات والمناهج، لكن الغرض عند الجميع هو تصنيع الإنسان، وبناء عقله وقناعاته وطريقة تفكيره وفق منهج معين ورؤية معينة، وهكذا يعكف الإنسان عبر تاريخه البشري علي تهذيب نفسه وتوريث خبراته ونقل معارفه للأجيال عبر الزمان والمكان، مع عصارة أعمار أجيال من المفكرين والخبراء والدارسين، المنقطعين للمعرفة، الصانعين لها بمهارة وصبر، مما يتم تحويله إلي ثقافة أو فكر أو مدارس تعليم تعمل علي صناعة الإنسان، ولهذه الصناعة الجليلة آثار مهمة، علي الأمم والشعوب والحضارات، وتعترضها أيضاً عقبات ومعوقات، تشتتها، أو توقفها وتعطلها، أو تجعل المنتج الذي تخرجه رديئا ومنهارا ومعقدا، ومن الممكن أن تتعرض مهمة صناعة الإنسان لعدد من الضغوط التي توجد تشويها كبيرا في نفسية هذا الإنسان وعقليته وسلوكه، بحيث ينشأ علي منظومة قيم معين، لكن ضغط الحياة المرير الطاحن يجعله يجحد كل تلك المنظومة القيمية، أو يظل علي احترامه لها لكن يضطر آسفا للتنازل عنها ومخالفتها لأن مسار الحياة المعقد لا يتقبلها، أو أن طريقة الحياة تدفع باتجاه منظومة قيم بديلة قائمة علي المغالبة والانتهازية والتشفي وقهر الإرادة وسريان مفهوم القوة التي تنتزع لنفسها ما يمكن انتزاعه، فإذا بالإنسان قد نشأ وتكون بمنظومة من المفاهيم والأخلاق وقوانين التعايش، لكنه يري الحركة الهادرة مثلا في الشارع والسير والمرور وحركة الحياة الوظيفية ونمط التفاعل الاجتماعي لا يتشرب ذلك ولا يتقبله ولا يساعد عليه، ويوجد مشقة وعنتا وعسرا كبيرا في إمكانية المعيشة بما اقتنع به الإنسان من سلوكيات وقيم، فإذا بالأمر قد وصل إلي انفصام في شخصية الإنسان وتمزق نفسي كبير بين ما يحبه ويتعلق به من قيم، وبين ما يضطر آسفا أن يلجأ إليه من مراوغة واقتحام وصراع، ومهمة صناعة الإنسان هي التي تستحق أن نبذل لها كل قدراتنا وإمكانياتنا وخبراتنا وجهودنا، وهي التي لها الأولوية المطلقة علي قمة هرم الأولويات، وهي التي يمكن أن تصنع اقتصادا ناجحا، ودولة ذات كيان وسيادة وثقل، والمفتاح المهم الذي يوصلنا لهذه الصناعة هو التعليم والبحث العلمي، ومن خلالهما يتم وضع الركائز الأساسية لصناعة الإنسان، وهما الإجراء العملي الذي يتم من خلاله تنفيذ عملية صناعة الإنسان، وما من أمة متحضرة ذات سيادة ووجود إلا وقد أنفقت علي التعليم وتوجهت إليه وصبرت علي مشقة تأسيسه وإحكامه، من الصين إلي أمريكا إلي روسيا إلي ألمانيا، وغير ذلك من الدول، حتي يمكن أن نعتبر حالة التعليم مؤشرا صادقا ودقيقا ومعبرا عن حالة تلك الدولة أو الحضارة، لأن الأوطان والحضارات في حقيقتها هي إنسان تم تصنيعه بطريقة عالية الجودة، ونحن في تاريخنا جوانب شديدة الأهمية من العناية بمدارس العلم، والإنفاق عليها، وحبس الأوقاف العظيمة من أجل الإنفاق علي أنشطتها، واستقطاب العقول والخبرات والعبقريات من مختلف أرجاء الدنيا بأجور مجزية وعطاء سخي، وقد ظللت فترة طويلة وأنا أتتبع الكتب التي أرخت للمدارس العلمية في تاريخنا، مثل كتاب (الدارس، لتاريخ المدارس) للعلامة عبد القادر النعيمي، أو كتاب (النعيم المقيم، في ذكري مدارس العلم ومجالس التعليم) للأستاذ محمد محمد المرير، أو كتاب (تاريخ المدرسة المستنصرية) للدكتور ناجي معروف، أو أطروحة الماجستير المسماة (نشأة المدارس وتطورها في العالم الإسلامي) للباحث صلاح السيد، فرأيت كيف أدرك علماء الأمة المحمدية محورية موضع التعليم والبحث العلمي من خريطة صناعة الإنسان، فتوجهوا إلي صنعة التعليم، وتفننوا فيه، ونوعوا دوائر العلم والمعرفة، واستخلصوا من مجموعها الآداب والفنون الرفيعة النبيلة، وتأسست علي ذلك كله نشأة مراصد الفلك، ومؤسسات الشفاء والعلاج، وازدهرت العلوم الهندسية والرياضية جنبا إلي جنب مع علوم الحديث والتفسير والفقه وأصول الفقه والمنطق وسائر العلوم، واستحكمت الجسور التي تربط تلك الدوائر والمجالات المعرفية المتعددة، ورجع كل ذلك علي الإنسان بمزيد من التبصير والتهذيب والرخاء والوفرة والعمران، إن مهمة صناعة الإنسان لها عينان لا تبصر إلا بهما وهما التعليم والبحث العلمي، ولا تحضر ولا تمدن ولا تقدم إلا بهما.