من شرفة قاعة البرلمان الإثيوبي تابعت خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسي. كانت القاعة مكتظة بنحو 595 من أعضاء البرلمان بمجلسيه (مجلس نواب الشعب والمجلس الفيدرالي). وكانت مقاعد الشرفة يشغلها الوفد الرسمي المرافق للرئيس ورؤساء التحرير والإعلاميون، وسفراء الدول العربية والافريقية، بجانب البابا ماتياس البطريرك الإثيوبي وعلماء الدين الإسلامي. في تمام الثالثة إلا الربع من بعد الظهر بتوقيت أديس أبابا، دخل الرئيس السيسي إلي القاعة بصحبة رئيسي المجلسين، بينما كان رئيس الوزراء ديسالين يحتل مقعده في الصف الأمامي بالقاعة. وقف النواب الإثيوبيون يصفقون بحرارة ترحيبا وتقديراً، وظل التصفيق متواصلاً، وبادلهم الرئيس التحية، مشيرا إليهم بيديه - في خجل - كما هي عادته عندما يجد الحفاوة بالغة، لكي يجلسوا. نصف ساعة استغرقها خطاب الرئيس السيسي، دون أن يقاطع بتصفيق أو علامات ترحيب بما يقول. وفجأة حينما أنهي خطابه، هب النواب واقفين، وارتجت القاعة بصقفة منتظمة الإيقاع، فضم الرئيس كفيه متشابكين تعبيرا عن تضامن مصر وإثيوبيا، وحينما هم الرئيس بالخروج، وقف النواب من جديد يصفقون بنفس الطريقة، وكانت السعادة تقفز من عيون السيسي وديسالين علي السواء. كنت أتوقع أن يخرج السيسي عن نص خطابه العقلاني العاطفي الصادق، أو أن يرتجل كما اعتدنا في نهاية كلماته، لكنه لم يشأ، فبين لسان المتحدث وآذان الحضور مترجم فوري، قد لا تسعفه كلمات في نقل الأقوال إلي سامعيها، فيختلف المنقول عما هو مقصود.
في زيارة الساعات الست والثلاثين إلي أديس أبابا التقي الرئيس السيسي بكل إثيوبيا. أمس الأول قابل رئيس الجمهورية الدكتور تيشومي، ثم أجري مباحثات قمة مع رئيس الوزراء ديسالين في جلسة مغلقة اقتصرت عليهما ثم جلسة موسعة بحضور وفدي البلدين. بعدها التقي أعضاء مجلس الأعمال المصري الإثيوبي، ثم أطل علي الشعب الإثيوبي في حوار تليفزيوني عبر شاشات التليفزيون الرسمي. واستقبل البطريرك ماتياس، قبل أن يلتقي رئيس الوزراء ورجال الدولة الإثيوبية في عشاء رسمي. يوم أمس.. وقبيل أن يتوجه الرئيس إلي مبني البرلمان لإلقاء خطابه، استهل نشاطه في مقر إقامته بفندق شيراتون بلقاءين مهمين أولهما مع أعضاء لجنة الدبلوماسية الشعبية الإثيوبية الذي يضم نخبة المجتمع من سياسيين وأكاديميين ومفكرين وفنانين وإعلاميين وأصحاب أعمال ورجال دين، وثانيهما مع كبار علماء الدين الإسلامي في إثيوبيا.
في تقديري أن لقاء الرئيس بالنخبة الإثيوبية كان بقدر أهمية خطابه أمام البرلمان، بل لعل نتائجه وصداه في الأيام والأسابيع المقبلة ستكون أشد تأثيراً علي الرأي العام، عبر ممثلي النخبة الإثيوبية. في هذا اللقاء الذي استغرق ساعتين، سادت المودة والحرارة وعم التفاؤل، وبدا أن ميراث ماضي الشكوك قد زال وتبدد. سبعة متحدثين تكلموا أمام الرئيس السيسي، أولهم محمد رشيد نائب رئيس المجلس الفيدرالي الذي عبر عن امتنانه للرئيس بالوفاء بوعده للجنة الدبلوماسية الشعبية حينما التقاها في القاهرة، بزيارة أديس أبابا، والحديث أمام البرلمان، والالتقاء معهم مجدداً في العاصمة الإثيوبية. وقال رشيد إن التوقيع علي اتفاق إعلان المبادئ الخاص بسد النهضة، هو إعلان عن بدء حقبة جديدة في علاقات البلدين تقوم علي التعاون والتفاهم.
كان من أبرز المتحدثين، السيدة مولو رئيسة مجلس الأعمال الإثيوبي، التي قالت: كل الناس هنا تحبك ليس فقط بسبب مواقفك الإيجابية، إنما هي تشعر من أحاديثك داخل مصر وخارجها، انك رجل صادق ومخلص، وتلمس من ابتسامتك الصافية طيبة وتواضعاً، وتجد فيها مع الشخصية الجادة الصارمة إحساساً بالطمأنينة. ثم تحدثت البروفيسور هيروت الاستاذة الجامعية، قائلة: «شكراً لك لأنك كسرت الحاجز الذي ظل يعزل مصر عن إثيوبيا ثلاثين عاماً. وشكرا لك علي وفائك بالوعد. فأنت رجل كلمة. قلت انك ستزورنا وفعلت، وأنك ستتحدث أمام البرلمان بعد المؤتمر الاقتصادي، وجئت فور انتهاء أعماله. وأقول بصدق لو كان في العالم قادة كثيرون مثلك، لأصبح أكثر أمناً وسلاماً». وأضافت البروفيسور هيروت: هناك أمران أود التأكيد عليهما.. الأول هو البناء علي النوايا السياسية الطيبة، لتوفير المناخ الذي يكفل للمولود الجديد وهو علاقات التعاون بيننا النمو والقوة. الأمر الثاني هو دور الإعلام، فالإعلام يمكن أن يساعد علي نجاح الاتفاق أو يدمره، ونتمني أن يتناول الإعلام المصري هذه المسألة بإيجابية. وعقب الرئيس علي البروفيسور هيروت والسيدة مولو، مطالباً الاثنتين بإعداد برنامج متكامل لتوطيد العلاقات الشعبية بين البلدين. وقال: سأخصص لكما مكتباً في مقر رئاسة الجمهورية لتعملا علي التواصل بين الناس هنا وفي مصر من أجل تعزيز أواصر العلاقات.
بعد ذلك تحدث أمام الرئيس حاخام يهودي وقس مسيحي وشيخ مسلم. قال الثلاثة: «لقد كنا في صلوات مستمرة من أجل تحقيق الرخاء والخير والتنمية لمصر وإثيوبيا، وعندما شاهدناكم انت ورئيس الوزراء ديسالين والرئيس السوداني البشير ترفعون أياديكم وهي متشابكة، رفعنا نحن أيادينا إلي الله نحمده ونشكره أن استجاب لصلواتنا». وفي ختام اللقاء.. قال الرئيس السيسي: «لقد جئت وفي يدي أحمل الخير وليس الشر للشعب الإثيوبي، وأقول لكم وحديثي موجه بالأخص لرجال الدين: خلوا بالكم من بلدكم.. هذا ما قلته لأشقائنا في البلاد العربية وأنتم أشقاء».
أمام البرلمان الإثيوبي، شاهدت الرئيس السيسي يتكلم. واستمعت معكم إلي خطابه. في رأيي أنه وثيقة تاريخية سينقل منها زعماء المستقبل في افريقيا عبارات مأثورة إلي الأجيال القادمة، كما نقل السيسي في خطابه عبارات لآباء أفارقة مؤسسين كعبدالناصر ونكروما. هذا الخطاب يحتاج إلي أكثر من قراءة، لعباراته، ومضامينه، ورسائله، ورؤاه. ويمكن من الخطاب أن نخلص إلي رسائل محددة حرص السيسي أن ينقلها إلي الشعبين المصري والإثيوبي، مثلما أراد توجيهها أيضا إلي الشعوب الافريقية، ومن أبرز هذه الرسائل: لا ينبغي أبدا أن يأمن أحدنا علي مستقبله دون الآخر أو أن يبني رفاهيته علي حساب أخيه. ولا سعادة لأحد في شقاء الآخرين، فكما أن للشعب الإثيوبي الشقيق الحق في التنمية ورفع مستوي معيشة أبنائه، فإن لإخوتكم المصريين الحق ليس فقط في التنمية ولكن في الحياة ذاتها التي قامت علي ضفاف نهر النيل الذي يعد المصدر الوحيد للمياه.. بل للحياة. علينا أن ننظر إلي الماضي فقط لنأخذ العبرة من الصعاب التي خضناها والعقبات التي اعترضت سبيل علاقاتنا، ويجب أن نتفق علي أنها لن تضع قيوداً علي الحاضر ولن تعيق تطلعاتنا إلي المستقبل. أدعوكم إلي بناء جسور الثقة، وإلي سد فجوات الشك والريبة وألا نسمح لها بأن تصبح هوة تفصل فيما بيننا.. ولدينا اليوم الفرصة لإنفاذ الإرادة السياسية التي أنجزت اتفاق المبادئ، باستكمال الاجراءات الدستورية في دولنا ليدخل حيز التنفيذ دون ابطاء. فالعبرة ليست بالكلمات ولا بتوقيع الاتفاقيات وإنما بتنفيذها بصدق وإخلاص. علينا أن نكتب صفحة جديدة في تاريخ علاقاتنا تقوم علي التعاون والمصالح المشتركة والفوائد المتبادلة، وتجنب النزاعات غير المجدية والصراعات التي تستنفد الموارد والطاقات. وأدعوكم لنضع معا ركائز مستقبل أفضل لأبنائنا ولأحفادنا.. تضاء فيه فصول المدارس في اثيوبيا ويشرب فيه كل أطفال مصر من نهر النيل كعهد آبائهم وأجدادهم.. ويضمن العيش الكريم لشعبينا.
فور انتهائه من كلمته أمام البرلمان الإثيوبي، توجه الرئيس السيسي إلي المطار عائدا إلي القاهرة. جاء السيسي من الخرطوم إلي أديس أبابا محلقاً بطائرته فوق النيل الأزرق، علي عكس اتجاه تدفق مياهه، وعاد بها إلي القاهرة وهو يرنو إلي المياه تهدر من فوق الهضبة إلي السودان ومصر، ولعله كان يردد عبارته الأهم أمام البرلمان الإثيوبي: إن تدفق مياه النيل من المنبع إلي المصب ما هو إلا حصص إلهية قدرها الله لنا جميعاً.