وشاءت الأقدار أن يرحل عبد الناصر قبل أن يكتمل حلمه، وتحقق النصر في حرب 1973 بالجيش الذي أعاد عبد الناصر بناءه، وكان نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي هو الذي لا يزال يحكم حتي العبور للانتصار لا نصف السيسي بأنه عبد الناصر، فالسيسي شخص مختلف، زمنه مختلف، وطريقه مختلف في الوصول للسلطة، وفي التصرف بها، لكن الارتباط مع الاختلاف يظل محسوسا، فالسيسي فيه إيحاء عبد الناصر، أو هكذا رآه الجمهور المصري عند القواعد الشعبية الواسعة، وأراده أن يكون، ومنحه تأييدا واسعا، لم يتح لأحد غيره منذ زمن جمال عبد الناصر. ومن المستحيل بالطبع تكرار ما جري في الخمسينيات والستينيات، فلا أحد ينكر أثر تغير الظروف وإيقاع الزمن، وقد كان عبد الناصر نفسه في الستينيات مختلفا ومتطورا عنه في الخمسينيات، وكانت الوطنية المصرية دليله، والتعلم من الواقع مدرسته، فلم يكن يبحث عن حياتنا في النظريات، بل كان يبحث عن النظريات في الحياة نفسها، يطرح أفكاره علي الواقع الحي، والذي يعيدها إليه أكثر اكتمالا ونضجا، وهكذا تكونت أفكاره الأبقي من إنجازاته، ومشروعه الذي لم يدفن معه في ضريح «كوبري القبة»، وظل القطب الجاذب لأحلام النهوض من جديد، وبقيم المشروع الوطني الجامع السبع، وهي الاستقلال الوطني والتوحيد العربي والديمقراطية للشعب ومجتمع الكفاية والعدل وأولوية العلم والتصنيع والتكنولوجيا والتجديد الحضاري وعولمة الضد أو «باندونج الجديدة»، وقد لا يتسع المقام لشروح ولا لتفاصيل، لكن قيم مشروع عبد الناصر تكتسب صلابتها وحيويتها من التفاعل الكفء مع الواقع من حولها، وتعبر الزمن الذي ولدت فيه إلي أزمنة طويلة مقبلة. وقد انطوت تجربة عبد الناصر علي مزايا عظمي، وعلي أخطاء أيضا، ولا توجد تجربة بشرية تخلو من الخطأ، لكن تجربة عبد الناصر حملت معها امتيازها، وهو الانتباه الفائق لأخطاء الممارسة، والمقدرة علي «التصحيح الذاتي»، وهكذا رحل عنا عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970، وعدد المعتقلين المتبقين في سجونه لايزيد عن 273 شخصا لا غير، وجيشه مستعد علي خط النار للثأر من هزيمة 1967، ونيته معقودة موثقة علي التقدم للتعدد الحزبي بعد النصر، وتجربته في الاستقلال الوطني والتصنيع الشامل والعدالة الاجتماعية حققت مرادها، فقد حققت مصر أعلي معدلات التنمية في العالم الثالث، وكانت تجربة مصر أكثر تقدما وتطورا من تجربة النهوض الصيني وقتها. وشاءت الأقدار أن يرحل عبد الناصر قبل أن يكتمل حلمه، وتحقق النصر في حرب 1973 بالجيش الذي أعاد عبد الناصر بناءه، وكان نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي هو الذي لا يزال يحكم حتي العبور للانتصار، لكن الانهيار أعقب الانتصار، فقد جري انقلاب السياسة علي نصر السلاح، وجري الانقلاب علي اختيارات عبد الناصر، وبدأ زمن «السداح مداح»، وإطلاق العنان لطبقة النهب العام، وتحطيم الاستقلال الوطني بقيود ما تسمي معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وإحلال المندوب الأمريكي السامي الجديد محل المندوب البريطاني السامي القديم، وتفكيك الركائز الإنتاجية، وإحلال السوق الاستهلاكية محل قلاع التصنيع الشامل، وشفط السلطة والثروة في حلق عائلة الحكم وحوارييها، وقسمة المجتمع إلي أغني طبقة وأفقر شعب، وإلي حد أن واحدا بالمئة من السكان صار يملك نصف الثروة الوطنية، وتسعة بالمئة يملكون 23 بالمئة من الثروة، فيما لم يتبق للتسعين بالمئة سوي الفتات وغوائل البؤس، والنزول إلي ما تحت خطوط الفقر والبطالة والعنوسة والجهل والمرض، وصرنا لاننافس في شئ، ولا نباهي بشئ غير المرض والموت، صارت مصر رقم واحد عالميا في الفشل الكلوي والتهاب الكبد الوبائي، وصارت مصر رقم واحد في حوادث الطرق ونزيف الموت علي الأسفلت المشروخ، وصار الفساد نظاما يحكم ويعظ، وتحول المجتمع إلي غبار بشري بائس ويائس، وطفح اليمين الديني الجهول علي جلد مصر وسطحها وفي عمقها، فقد خاطب اليمين الديني بؤس المجتمع كجمعية خيرية، وخاطب يأس المجتمع كجمعية دينية، وانتهينا إلي انحطاط تاريخي متزايد متفاقم متصل لأربعين سنة، هوت فيه مصر إلي القاع في سباق العصر، ونزلت من مكانة المنافسة مع كوريا الجنوبية حتي حرب 1973، إلي قاع المنافسة مع «بوركينا فاسو» علي مؤشر الفساد الدولي، جرت المذبحة لمكانة مصر في غيبة أهلها، كانت مصر علي المحفة إلي قبرها، وإلي أن استعادها أهلها بثورة 25 يناير 2011 ضد نظام الهوان والتجريف، وبالموجة الثورية الأعظم في 30 يونيو 2013 ضد حكم اليمين الديني، وراحت مصر تستعيد وعيها، وتخرج من غيبوبتها الثقيلة، وتسترد أسماءها الحسني، وترد الاعتبار لاسم وصور جمال عبد الناصر في ميادين القلق والثورة. إنها قصة بلد يصل ما انقطع من عمره الناهض، يصل ما انقطع مع ثورته الموءودة، وفي سياق ثورة الناس الأحرار المتصلة في العمق بثورة الضباط الأحرار، وهو ما يفسر العودة القوية لإيحاء واختيار عبد الناصر عند أغلب المصريين، ورغبتهم الكامنة الظاهرة في إلقاء عباءة عبد الناصر علي شخص السيسي، وأمنياتهم أن يكون السيسي امتدادا لعبد الناصر، وهو ما يدركه الرئيس السيسي بذكاء غريزي لافت، ويحيل في خطابه دائما إلي زهو زمن جمال عبد الناصر، وبالذات قبل هزيمة 1967، ويعتبر أن الانكسار بدأ بعد الانتصار في حرب 1973، وأن مشكلة مصر الراهنة بدأت وتضخمت من وقتها، وأن البلد «وقعت» بالكامل في الثلاثين سنة الأخيرة، وعلي طريقة قوله «منه لله مبارك. خرب البلد»، وأنه أي الرئيس المخلوع «كان عليه أن يرحل قبل 15 أو 20 سنة»، وسواها من العبارات المماثلة، والتي تؤكد صحة وصف السيسي للمشكلة، وإن كان الخلاف باديا علي طرق الحل، فالسيسي قطع أشواطا في استعادة الاستقلال الوطني، والتقدم لحملة تصنيع ومشروعات كبري، لكن الناس تستبطئ خطاه في تحطيم «رأسمالية المحاسيب» وطبقة الفساد والنهب العام، والتي تدير معركة تكسير عظام ضد الرئيس شخصيا، وتشوش علي أصالة انتسابه لمدرسة الوطنية المصرية، والتي يعد عبد الناصر هو العلم الأبرز عليها.