نريد أغنيات تليق بوطن مجاهد ، وطن يبني وهو محاصر، وطن يحلم أحلاما خضراء.. تتناثر عليها دماء الشهداء!! أتعرض دائما للسؤال وللمطالبة بالكتابة عن قناةالسويس الجديدة ويعتبر البعض أنه ربما يكون هذا موقفا من القنال، فلقد أعتادوا أن يروني معارضا بوضوح كل الانجازات المزيفة للأنظمة السابقة ويخشون أن أقع في خطأ عدم تأييد هذا المشروع.. والحقيقة ان السؤال والمطالبة يأتيان من الفقراء الذين اعتادوا ان يتبعوا بوصلة أشير لهم بها علي المستقل، لكنهم هذه المرة سبقوني في التأييد ويخشون علي رجلهم الذي يثقفون به أن ينزلق الي الخطأ.. كما إن الكيثرين من المتعلمين معلمين وموظفين بل وقضاة اذا حتمت الظروف لقاءاتنا، بل أنهم يأتون الي منزلي الريفي بالضبعية بريف الاسماعيلية- ليسألوا نفس السؤال محبة ومطالبة وإلحاحا!. هم لا ينظرون الي تأييدي الرئيس السيسي أو لقائنا المعروف أو انني توكأت علي آلامي وذهبت الي النادي في حفل الافتتاح لاستمع الي خطابه الخاص ببدء العمل في القناة الجديدة.. كل ذلك لا يهمهم ما يهمهم هو أني لم أكتب اغنية أو قصيدة تؤيد المشروع وتحمس الشعب المصري وتدعوه للالتفاف، وحين أقول ان الشعب المصري أيد المشروع بنفسه ولم ينتظر كلماتنا فهو يؤمن بكلمات رئيسه وليست هذه هي الدعوة الأولي التي يلبون فيها نداءه، وكلنا يعرف كيف اندفع الشعب المصري ليسد الشوارع والكباري والميادين تصديقا له ودعما إبان ثورة يناير. وفي الحقيقة ان من يطوع الشعر الي هذا الحد الذي ترغب فيه الجماهير يضيع الشعر ويضيع مصداقيته هو شخصيا. لا يجب ان يعمل الشعر في خدمة السياسة الي هذا الحد المبتذل.. لقد انتحر الشاعر الروسي الكبير فلاديمير مايكوفسكي إبان الثورة الروسية حين وجد نفسه يكتب شعرا يدفع به الفلاحين لتحسين نوعية وإنتاجية البطاطس.. انتحر الرجل ولم يطق الشعر ولم يطق ما فعل به الواجب الوطني حين اعتدي علي الشعر أعز ما يملك، وفيما بعد حين زرت موسكو وذهبت لزيارة تمثاله، فوجئت بأن تمثال الشاعر العظيم بوشكين غارقة قاعدته في الورود من كل الألوان والأنواع ومجموعات من الفتيات الجميلات واقفات الي تمثاله تتأمله، بينما وقف تمثال مايكوفسكي، وحيدا، بباقة زهور صغيرة وحيدة ذابلة ملقاة علي قاعدة تمثاله، وحين رآني البعض أقف طويلا أمام تمثال الشاعر المظلوم تهامسوا وربما اتهموني بالتخلف وعدم التفريق بين القامتين بوشكين ومايكوفسكي، ولم يعرفوا اني كنت أعزي الرجل الذي اجبرته الثورة علي التخلي عن قيم الشعر العالية الغالية ليقدمها قربانا علي مذبح انتاجيه البطاطس التي ربما لم يكن الشعب الروسي يأكل سواها خلال الثورة وما بعدها وهو هدف نبيل لا شك لكن قتل الشعر ايضا جريمة لم يغفرها له من قتل شعره من أجلهم. وقد رأيت ذلك وفهمته من المقارنة بين باقات زهور بوشكين وحزمة الزهور الصغيرة الحزينة الملقاة تحت مايكوفسكي، بل ربما وضع له تلك الزهور البائسة شاعر مثلي من بلدان العالم الثالث الذي لا يفرق بين الشعر والهتاف.. ويقول لي البعض لقد احتفيت بالسد العالي، وذهبت للاقامة بين عماله لتعاني ما عانوا وجئتنا بأشهر عمل لك «ديوان جوابات حراجي القط الي زوجته فاطنة احمد عبدالغفار في جبلاية الفار» وربما كان ديوانك وأغنية عبدالحليم حكاية السد لأحمد شفيق كامل وكمال الطويل فقط ما بقي من آثار أدبية وفنية لذلك المشروع الخالد، فلماذا لا تكرر التجربة، وقال صديق لماذا لا يذهب عيد ابن حراجي الي شرق القناة ليحكي لنا من خلال خطابات جديدة.. الخ. وأحيانا أجيب ضاحكا، ربما تحمست للسد العالي لأنه بناء قلنا حنبني ومشروع القنال «حفر» فهل سنقول «قلنا حنحفر» والحقيقة أن هذا من باب الفكاهة فقط، أما عن الشعر فهو لا يصلح للسد أو القناة، وربما لولا أن ألهمت بفكرة حراجي وروحه وفاطنة ومشاعرهما التي طغت علي أصوات التراكتورات والجرارات والأوناش لما إلفت الناس الي هذا العمل ولما أحبوه بتلك الحميمية واحتفظوا بمقولاتهما، وكنت حين أعتلي المسرح في البلدان العربية تندلع النداءات «حراجي يا عبدرحمان» ثم فيما بعد اصطادتهم قصيدتي عن عمتي «يامنه». نحن لا نقرر متي نكتب الشعر، الشعر هو الذي يأتي. لايستأذن وانما يقتحم عليك المكان فتصبح خادمه الأمين، وحين يبرز القصد وتتجه أنت اليه فإنه بارع فيتخييب الرجاء وتجد نفسك تمزق الاوراق مرة بعد مرة!! أنا سعيد جدا بمشروع القناة كنت من قبل أذهب بمفردي دون معونه دولة الي حيث تكون مصر.. حين كانت مصر في أسوان وبين عمال السد العالي ذهبت وأقمت، وحين كانت مصر علي شاطيء القناة وفي السويس بالذات ذهبت وأقمت ، بل بنيت بيتا طينيا صغيرا وعشت التجربة مثلي مثل أي سويسي أو قنالي، أما الآن ولأن مصر في سيناء، ولإن القناة الجديدة في الاسماعيلية، ولانني مريض ولا يمكنني الذهاب أو السفر.. فقد جاءت مصر الي بنفسها، فالمشروع علي مدي مد البصر، ولو كنت استطيع الصعود الي سقف بيتي لعاينته علي الطبيعة وليس من خلال الشاشات كما هو حادث. ان ما يصلح للمناسبات الوطنية هو الغناء، ولكن الغناء فن مقيد بشروطه الانتاجية، ففي الشعر لا تحتاج لأكثر من ورقة وقلم، أما في الغناء فأنت لست حرا، إذ إنه فن ممول، مثله مثل المسرح والسينما وغيرهما، ثم إنه مشروط بوعي مقنن، هو وعي الملحن الذي سيلحن الكلمات وكأنه كاتبها، والمطرب أو المطربة التي تظهر للناس بأغنيتها وكأنها كاتبتها وملحنتها، فنحن نقول أغنية فلان أو فلانه ليتواري تماما مؤلفها وملحنها ولكن القليلين منا استطاعوا سرقة بعض وهج الأغنية بكلمات فريدة تجبر المستمع علي ان يسأل من كاتب هذه الأغنية أو من ملحنها. الأغنية الوطنية أما عن الأغنية الوطنية فقد كانت الدولة في قمة وعيها- في الستينيات مثلا- تهتم بها اهتماما كبيرا وتقدر دورها في إذكاء العاطفة الوطنية في الصدور وقدرتها علي توحيد البشر في اللحظات التي يحتاج فيها الوطن لهذه الوحدة، أما في أيامنا هذه فالدنيا سداح مداح لا أحد يهتم الا بأغنيات تأتيهم جاهزة من المطربين أو الشركات، وحتي هذه تضيع في خضم وتزاحم الغناء «اللي بالي بالك» وكأننا يئسنا من القدرة علي ابداع فن صادق يحتضن وتحتضنه الجماهير، وتركنا الأمر لعبث الجهلاء في الأجهزة الاعلامية التي دائما كانت تأخذها بوصلة مواقفها الوطنية الي الاتجاه الصحيح، لا أتحدث عن قناةالسويس الجديدة فلا أظن انها تصلح موضوعا للغناء، فهل اذا حاولنا ان نغنيها سنقول «أحفر قنالك أحفر أحفر، خلي السفن المتعطلة تعبر مثلا» سيكون هذا أمرا مضحكا لا شك، لكني أتحدث عن اغنية وطنية تعكس ما نحن فيه، وتقاتل معنا في حربنا ضد الارهاب ليس علي طريقة يا إرهابي مايصحش تقتل أخوك وتزعل وطنك» وكل الكلام الفارغ الذي يستعطف الارهابي ان يعود لرشده، بدلا من أن يوقظ الناس لمواجهة قاتل لن يتوب، قاتل يؤدي مهاما لتنظيم أكبر استهدف المنطقة العربية بجملها، ولن يحميها الجيش أو الشرطة بمفردهما ان لم يستيقظ الشعب للأعداء والمواجهة، اغنيات تحمل سلاح المقاومة وتخوض معارك النضال ضد اعدائنا الغرباء والذين منا. انناw في حاجة ماسة لأغنيات وطنية غير محترفة لتوقظ المصريين وتنبهم الي ماهم فيه، وتحاول تمهيد الطرق بين الأحلام، والواقع، وتهييء المواطنين الي مرحلة قاسية مقبلة نري دوائر حصارها من حولنا ولا يجب ان نصحو لنجدها بيننا ليعرف كل مواطن موقعه من الصراع المقبل ودوره في المواجهة. إن الأغنية أسهل وأبسط أنواع الفنون وأكثرها تأثيرا في الناس، والشباب بالذات وبدلا من أن نضيع هذه الامكانية في الكلام الفارغ وفي اغنيات لا تختلف كثيرا عن الاغنيات وعن هؤلاء الذين يطلقون علي أنفسهم مطربين شعبيين والذين يتسابقون في الابتذال كلاما وصورة وجب ان نلتفت اليها لنعيد اليها امكانياتها المسلوبة، فأغنيات الستينيات لم تكن معجزة هبطت علينا، ولكنها جهد مؤلفين وملحنين آمنوا بالوطن ووقفوا مع جنوده في الصفوف الأولي يقاتلون بالكلمة واللحن والصوت. إن الوطن الذي اخلصنا في حبه، جمَّل كلماتنا وموسيقانا واصوات مطربينا، فكيف نقف الآن عاجزين أمام عدو يقف علي الأبواب مستعدا الي جانب هؤلاء الذين يطعنوننا من الداخل يوميا. ان الدولة مقصرة تماما في ان تترك مصير الأغنية الوطنية في يد من لا يعرف الا أغاني المديح الوطني، وهو نوع من الغناء حتي لو زينه اصحابه بالايقاع والدندشة فإنه مثل زبد البحر سرعان ما يطفو، سرعان ما ينطفيء آن الأوان ان يوضع الأمر في يد أناس يملؤهم الاحساس بالوطنية وليس في يد بعض الموظفين الذين يفرقون علي الملحنين بعضا من النصوص المقتولة لتسديد خانة، لا ندري هل انتجت أم كان ذلك «تهويشا وطنيا» لذر الرماد في العيون. نريد أغنيات تليق بوطن مجاهد، وطن يبني وهو محاصر، وطن يحلم أحلاما خضراء تتناثر عليها دماء الشهداء، فمتي تكون هناك ادارة وطنية حقيقيه لابداع غناء يواجه الآرهاب من جانب، والهشك بشك.. من الجانب الآخر!؟ والآن، هل أجبت عن لماذا لم أكتب أغنيات وطنية في هذه الظروف الحرجة والتي تحتاج للكلمة الشريفة؟! سدود سيناء السبت: حين اجتاحت السيول مدينة قنا التي لا تمطر سماؤها الا نادراً كان ذلك في عام 1954، لم تمطر السماء ولكن المدينة استيقظت لتجد الماء في ارتفاع الأسّرة، كأننا في مدينة البندقية، الفارق أن البيوت راحت تتداعي متتابعة وماهي الا سويعات وكانت المدينة كلها عدا الجزءالعلوي الذي كنا نقطنه والذي يشكل تلا كبيراً مازلت اشك أن معبداً هائلاً كامن تحت هذا المرتفع المتسع والذي يواجه معبد دندرة في البر الغربي للمدينة، فالارتفاع الذي في مساحة عدة افدنة والذي تصعد إليه من المدينة وتنزل منه لا تجد سببا له في ارض طميية مستوية سوي ان يكون معبداً مهيبا مردوماً وقد نبهت الي ذلك مراراً. المهم .. غرقت المدينة، وبركت علي الأرض آلاف المنازل، اصبح أهلها في العراء، وكانت ثورة يوليو في فتوتَّها لم تقض في الحكم أكثر من عامين، وراح التلاميذ يذهبون إلي المدارس وهم يمتطون جزوع النخيل ويجدفون بأقفاع الجريد، سرعان ما نزل الينا مجلس قيادة الثورة، ورأينا حسين الشافعي وكمال الدين حسين وبقية الوجوه التي صارت معروفة إنها تلك المناسبة التي صافحت فيها عبدالناصر وأنا غارق في الماء ونصف سيارته ايضاً. أقامت (الثورة) في الحال المعسكرات وراحت تبني مدينة كاملة، اطلقنا عليها اسم (الدوار)، واقيمت المخابز والمطاعم التي تطعم مدينة، وراح التلاميذ يتبرعون للعمل في المخابز والمطاعم وتوزيع المؤن والأحذية والملابس اذ أن كل ما يملك سكان المدينة قد ضاع تحت البيوت التي صارت كتلا طينية شكلت تلالا وجبالا. قلت إن سماء قنا لا تمطر فمن أين جاء الماء؟ كعادته جاء مندفعاً من سلسلة جبال البحر الاحمر، نفس السيول التي تغرق سيناء عادة. لا يمكن أن أنسي «قطار الرحمة»، فقد جاء فنانو مصر العظام للمواساة فاتن حمامة، ماجدة، هدي سلطان، فريد شوقي..... الخ...... هكذا كان الفن والفنانون في الزمن الذي يطلقون عليه اسم الزمن الجميل، كانوا جزءا من الناس غير متعالين أولا مبالين بما يحدث من حولهم. المهم.. من رأي رعب الماء وقدرته علي التدمير، يعرف جيداً أهمية القرار الذي اتخذه الرئيس بإقامة السدود بسيناء.!!