أدرك محمد علي باشا عبقرية المصريين. لم يستورد علماء من الخارج، اتجه إلي أبناء الفلاحين، مسلمين ومسيحيين، اختار منهم النجباء وأرسلهم إلي العالم المتقدم وبهم.... لماذا ضرورة التوقف عند تجربة محمد علي باشا الآن، ثم تجربة جمال عبدالناصر بعد حوالي قرنين من الزمان. القواسم مشتركة. رغم أن التجربة الثانية ولأسباب سياسية ألقت ظلالا علي الأولي، حتي إن جيلي الذي تلقي تعليمه بعد ثورة 1952 نشأ علي اعتبار محمد علي باشا مستبدا، عسوفا، حكم مصر بالحديد والنار، وتلك خطورة التعليم وتأثيره، ولولا أنني قرأت مؤلفات المؤرخ محمد فؤاد شكري، وعبدالرحمن زكي، ومحمد شفيق غربال، وأخيرا خالد فهمي رغم تباين توجهاتها لظللت أسيرا لهذه النظرة المعادية لأسرة محمد علي التي قامت ضدها ثورة يوليو، مع أن مراحل حكم أولاد وأحفاد أسرة محمد علي، يختلف كل منها عن الآخر، لا يمكن مقارنة الخديو إسماعيل بالخديو توفيق، وإلي وقت قريب كان الخديو إسماعيل ذا صورة سلبية، رجل شره إلي الملذات، خرب الخزانة المصرية من أجل إعجابه بالامبراطورة أوجيني، حتي قيل إنه مد طريق الهرم بميل معين حتي إذا ركب إلي جوارها مالت عليه فيقع التلامس!..، أعرف أن التاريخ نسبي، الحقائق فيه تبدو من وجهة نظر القوة المسيطرة والمثال الذي أضربه دائما الحاكم بأمر الله الذي يراه البعض مجنونا.. ورفعه آخرون إلي مرتبة القداسة المطلقة. هذا حديث طويل يتصل بالذاكرة وقوانينها، وأسس الحاضر ورؤيته إلي الماضي وفلسفة التاريخ. ما أريد تأكيده أن محمد علي واحد من أعظم الحكام الذين فهموا مصر في حدود عصره، عندما نريد أن نحكم علي شخص يجب أن نتوقف عنده في إطاره الزمني بكل ما يحوي من عوامل سياسية وإجتماعية، كيف حقق المعجزة، كيف تسلم مصر خربة، مقطعة الاوصال وخلال سنوات قليلة حولها إلي قوة عظمي، لا أصدق أنه أمي، واذا كان حقا أميا، فيكفيه ذكاؤه الخارق، يقال إنهم قرأوا عليه كتاب الأمير للداهية «ميكافيللي« والذي صار الدهاء السياسي يعرف به، بعد أن انتهي من الإصغاء إليه، قال: إنه لا يصلح تلميذا صغيرا عندي. ما أتوقف عنده اليوم، النهضة العلمية التي حققها إعتمادا علي ابناء الفلاحين المصريين وإرسال النوابغ منهم إلي أوروبا، مراجعي كتابان، الأول للأمير عمر طوسون «البعثات العلمية في عهد محمد علي ثم في عهدي عباس الأول وسعيد، اقتنيته في سبعينيات القرن الماضي، والطريف أن النسخة عليها إهداء بخط المؤلف في الثلاثين من أكتوبر عام 1934 إلي حضرة صاحب العزة أحمد أمين بك، أي في نفس عام صدور الكتاب، الكتاب الثاني. البعثات المصرية الي اوروبا في عصر محمد علي ، تأليف د. عبدالحكيم قاسم نشرته مكتبة مدبولي. والغريب أنني لم أجد كتاب الأمير عمر طوسون بين مراجع الباحث. مقدمة ضافية يقول المؤلف في مقدمته: «من يقرأ التاريخ بشيء من العناية يجد هذه المنح الإلهية قد قيضت لمحمد علي وأن يد المنعم جلت قدرته قد أفاضتها عليه واحدة تلو الأخري. شمر عن ساعد الجد، ولم يبال بما يحيط به من المدلهمات وما يكتنفه من الظلمة الحالكة. ثم يقول إنه أدرك أن النظام لا يمكن أن يقوم إلا علي أساس من العلم، وأن العلم الذي تقوم به الممالك ليس ما يسمونه علما في الشرق، وإنما هو الذي قامت به المدنية الغربية. لم يكن حوله علماء مثل الذين أحاطوا بنابليون، ولحسن الحظ لم يكن هناك مصريون قد سافروا إلي الغرب وحققوا نجاحات هناك فأرسل يستدعيهم ويضعهم في الصدارة وفقا للمنطق المصري «الشيخ البعيد سره باتع» ربما تقتضي الصوفية ذلك ولكن في العلم لا. يجب أن تكون الأولوية لمن ينبع من البيئة المحلية، لم يكن في مصر مدارس أصلا إلا الكتاتيب، أدرك محمد علي أن هذه الكتاتيب لن تفي بالغرض المروم، وأن البلاد تحتاج إلي الاجانب من المدرسين، غير أنه لم يكن يريد أن تحتاج بلاده إلي شيء من بعيد، وهنا قرر أن يرسل المصريين من مصر إلي أوروبا ليتعلموا فيها العلوم الحديثة، ويتخصصوا في العلوم التي لا توجد في مصر، وبذلك يتخلص من الاحتياج إلي الاجنبي، بذلك يضمن الاستقلال العلمي لبلاده، وهذا ما فعله جمال عبدالناصر في الستينات، أوسع حركة بعثات إلي الغرب، وإلي الاتحاد السوفيتي تمت في الستينات، ومعظم الذين ندللهم الآن ونضعهم في الصدارة خرجوا ضمن هذه البعثات، لا أستثني إلا القديس مجدي يعقوب أرسل محمد علي ابناءالفلاحين إلي سائر ممالك أوروبا، خاصة فرنسا التي كان يراها منارة الحضارة الغربية، دعم ذلك قدوم بعض الفرنسيين من ذوي الميول الاشتراكية «السان سيمونيون» واعتماد محمد علي الكامل علي جومار الذي أشرف علي إعداد كتاب وصف مصر، كتب إليه رسالة يقول في مطلعها «جناب المحترم المسيو جومار العضو بمعهد فرنسا شكرا لك يا صديق مصر العامل بجد وإخلاص لنفعها حتي كأنك نبراس رغباتي في تمدين البلاد التي جعلني الله علي رأسها». أول بعثة كانت إلي ايطاليا عام 1813، إلي جامعات ليفورن وميلان وفلورنسة وروما وغيرها، لدراسة الفنون العسكرية وبناءالسفن والطباعة «ما يثير الانتباه أنها ضمت مبعوثين لدراسة تجليد الكتب» والهندسة والفلك، ولم يعرف المؤلف عمر طوسون منهم إلا شخصا واحدا هو، نقولا مسابكي أفندي ليتعلم فن سبك الحروف، أقام أربع سنوات وعاد إلي مصر ليتولي إدارة مطبعة بولاق بدءا من عام 1821، وظل مديرا لها حتي توفاه الله عام 1831. البعثة الثانية إلي فرنسا أيضا عام 1818، منهم عثمان نور الدين أفندي، لدراسة العلوم الحربية، خاصة البحرية منها، وقد ترقي بعد عودته حتي أصبح قائدا للبحرية المصرية، هنا لنتذكر،أن من شرع في تأسيس الجيش المصري في العصر الحديث هو محمد علي باشا. البعثة الثالثة إلي فرنسا كانت أهمها وقام أعضاؤها بدور مؤثر جدا في نهضة مصر الحديثة. البعثة الثالثة ضمن أربعة وأربعين طالبا تلقوا تعليمهم في مدارس مصرية أنشأها محمد علي، كان بينهم أربعة أرمن مسيحيين، وثلاثون مسلما، وثلاثة يحملون لقب الشيوخ، ثمانية عشر مولودون في مصر، وستة عشر خارج مصر، أحد الثمانية عشر عثماني الأصل مولود في القاهرة من أم مصرية، اثنا عشر آخرون عثمانيون أتوا إلي القاهرة يافعين خمسة وعشرون من هؤلاء تلقوا دروسهم في مدرسة قصربولاق وفي مدرسة القصر العيني، وثلاثة منهم في كلية الازهر بالقاهرة، وخمسة في مدارس خصوصية وعلي أشخاص مختلفين بعضهم درس في المدرسة الفرنسية المصرية التي تأسست في مصر وأدارها فرنسيون 1825 وضمت ثمانية وثمانين تلميذا، جري اختيارهم بدقة وفقا لمعايير الذكاء والنجابة، لا اعتبار لنسب أو دين أو وساطة، منتهي النزاهة، هذه المدرسة كان يدرس فيها الطب والرياضة والعلوم العسكرية واللغات الفرنسية والتركية والفارسية، ومدتها ثلاث سنوات، والاقامة فيها كاملة، وتذكرني بتجربة مدرسة المتفوقين التي أقامها عبدالناصر في عين شمس، وكانت تعتمد علي اختياراوائل المتفوقين في الشهادة الاعدادية، ولمدة ثلاث سنوات المرحلة الثانوية يقيم الطالب في غرفة خاصة، إقامة كاملة، ويتقاضي راتبا شهريا يعادل راتب خريج الجامعة، وبالطبع كانت عين شمس ضاحية أنيقة، هادئة في ذلك الوقت، شقيقي إسماعيل درس بها، وممن أعرفهم الدكتور جلال السعيد محافظ القاهرة الآن والدكتور مجدي جمعة جراح القلب الشهير. المدرسة الثانية التي انشأها محمد علي للطب في أبي زعبل، وملحق بها مستشفي ضخم يتسع لألف ومائتي مريض. كان يديرها كلود بك وقد زرت مدفنه في مرسيليا، ورأيت متحفا صغيرا لاثار مصرية اصطحبها معه، تلاميذ البعثات كان يتم اختيارهم من هذه المدارس ومن الأزهر، هذه البعثة ضمت بينها اسماء هامة، منهم الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي سافر إماما للطلبة وشاء القدر أن يلعب بالدور الأهم بعد عودته، اذ أسس مدرسة الألسن المستمرة حتي الآن، ويعتبر الأب الروحي للحركة الثقافية الحديثة، أيضا محمد مظهر الذي أصبح من أكبر مهندسي مصر خاصة في الري، واسمه مازال يطلق علي شارع رئيسي بالزمالك، وكان من مشروعات مكتبة القاهرة منذ انشائها التعريف بالاسماء التي أطلقت علي هذه الشوارع عن طريق وضع لافتات تتضمن سطورا قليلة عن صاحب الاسم ولكن لم يتم شيء، أتجه إلي الدكتور جلال السعيد محافظ القاهرة لعله يتبني المشروع، من المبعوثين أيضا محمود الفلكي الذي أظهر عبقرية نادرة في علم الفلك، واسمه يحمله شارع هام وميدان رئيسي بوسط المدينة، كان الباشا محمدعلي يتتبع المبعوثين فردا، فردا، يسأل عن أحوالهم، وجدية كل منهم في التحصيل، ويسأل عن ادائهم فروض الصلاة، وكان لا يرسل إليهم مكاتباتهم إلا بالفرنسية، ويتلقي تقارير عن كل منهم بواسطة الموسيو جومار المشرف العام علي البعثات المصرية في فرنسا. أهمية هذه البعثة أتوقف عند تقرير كلوت بك عن هذه البعثة الهامة العدد يتفق مع قول الدكتور كلوت بك عنها في كتابه «نظرة عامة حول مصر» أنها كانت أربعة وأربعين تلميذا ويؤخذ مما قاله كلوت بك عن أعضاء هذه البعثة الأربعة والأربعين أنهم نجحوا جميعا ما عدا خمسة منهم وأن الخمسة الذين لم ينجحوا كان السبب في عدم نجاحهم ظهور ضعف أهلية بعضهم ومرض البعض الآخر. وقد عرفنا من هؤلاء الخمسة ثلاثة رجعوا إلي مصر قبل إتمام دروسهم لعدم أهليتهم كما سبق ذكر ذلك وهم: الشيخ محمد الرقيق، وإبراهيم وهبة، والشيخ العلوي أو الشيخ أحمد عليوة. وقال كلوت أيضا عن أعضاء هذه البعثة التسعة والثلاثين الناجحين إن أحد عشر منهم تعلموا علوم الادارة الحربية والمدنية والسياسية. وثمانية تعلموا علم الادارة البحرية والمدفعية والهندسة العسكرية. واثنين علوم الطب والجراحة. وخمسة الفلاحة والتاريخ الطبيعي والمعادن، وأربعة العلوم الكيميائية. وأربعة علم الهدروليكا أي علم قوي المياه «HYDRAULIQUE» وفن صب المعادن وصنع الاسلحة. وثلاثة الحفر والطباعة. وواحدا فن الترجمة. وواحدا فن العمارة. ا ه أما الأحد عشر الذين قال عنهم إنهم تعلموا علوم الادارة الحربية والمدنية والسياسية فهم: المهردار عبدي شكري أفندي، وأرتين أفندي، وسليم أفندي الكرجي، ومحمد خسرو تيمور أفندي، ومحمد أمين أفندي، «وهؤلاء الخمسة تعلموا علوم الادارة المدنية» ودويدار مصطفي مختار أفندي، ورشيد أباظة أفندي، وأحمد يكن القوللي أفندي، وسليمان راشد أفندي، «وهؤلاء الأربعة تعلموا علوم الادارة الحربية» واصطفان أفندي، وخسرو أفندي الأرمني، «وهذان تعلما العلوم السياسية». وأماالثمانية الذين قال عنهم إنهم تعلموا علوم الادارة البحرية والمدفعية والهندسة العسكرية فهم: حسن الاسكندراني أفندي، ومحمود نامي أفندي، ومحمد شنان أفندي. «وهؤلاء الثلاثة تعلموا علم الادارة البحرية» ومحمد مظهر أفندي، وسليمان البحيري، وعلي أفندي الكرجي. «وهؤلاء الثلاثة تعلموا الهندسة العسكرية». والحاج عمر أفندي، وسليمان لاز أفندي. «وهذان تعلما علم المدفعية». والاثنان اللذان قال عنهما إنهما تعلما علوم - الطب والجراحة هما: علي هيبة، والشيخ محمد الدشطوطي أو محمد نافع أفندي وأما الخمسة الذين قال عنهم إنهم تعلموا الفلاحة والتاريخ الطبيعي والمعادن فهم: يوسف أفندي الأرمني، وخليل محمود. «وهذان الاثنان تعلما علم الفلاحة». وعلي حسين، وأحمد النجدلي، وأحمد ابن أخي الدويدار مصطفي أفندي مختار. «وهؤلاء الثلاثة تعلموا التاريخ الطبيعي والمعادن» والأربعة الذين قال عنهم إنهم تعلموا العلوم الكيميائية هم: عمر الكومي، وأحمد يوسف، وأحمد شعبان ويوسف العيادي. وأما الأربعة الذين قال عنهم إنهم تعلموا علم الهدروليكا وفن صب المعادن وصنع الأسلحة فهم: مصطفي محرمجي «بهجت»، ومحمد بيومي. «وهذان تعلما علم الهدروليكا» وعمر زاده أمين أفندي، وأحمد حسن حنفي. «وهذان تعلما فن صب المعادن وصنع الأسلحة». وأما الثلاثة الذين تعلموا الطباعة والحفر فهم: حسن الورداني ومحمد أسعد، وثالثهم قاسم الجندي علي ما نرجح. والذي قال عنه إنه تعلم الترجمة هو الشيخ رفاعة رافع «الطهطاوي» والذي قال عنه إنه تعلم فن العمارة هو حسين أفندي ويحتمل أن يكون المقصود بفن العمارة فن إنشاء السفن ذلك أنه كان يتعلم في طولون وهو الثغر البحري المشهور بعمارة السفن والمنشآت البحرية وكان مما يتعلمه فن الرسم وهو ذو علاقة كبري بفن العمارة. بقي الشيخ أحمد العطار الذي قال عنه جومار إنه كان يتعلم الميكانيكا. ولم يذكر كلوت بك عن أحد أعضاء هذه البعثة أنه كان يتعلم هذا الفن. فهو إما أن يكون قد حول إلي تعلم علم آخر وهذا هو الغالب وإما أن يكون كلوت بك قد غفل عن ذكر هذا الفن ومن كان يتعلمه. وقد ذكر كلوت بك بعد ذلك أن الباشا أرسل إلي فرنسا تلاميذ التحقوا بهذه البعثة تحت رقابة مسيو جومار بلغ عددهم إلي سنة 1833م سبعين تلميذا وكان من بينهم بعثة للفنون الآلية «الصنائع» وعددها أربعون تلميذا وبعثة الطب والصيدلة وعددها اثنا عشر تلميذا. كل هؤلاء النوابغ كانوا من ابناء الفلاحين المصريين والحرفيين ومعظمهم من الفقراء، غير أن بعد النظر لدي محمد علي جعله يكتشف عبقرية المصريين وأنهم وحدهم القادرون علي بناء وطنهم وليس القادمين من بعيد. وللحديث بقية..