لم يحاكم مبارك علي آثام الثلاثين سنة، ويحاكمونه علي بعض ما جري في هامش الثمانية عشر يوما، وبطريقة تشبه المساءلة عن سرقة حبل غسيل، لا عن سرقة بلد وقتل أمة، اللهم لا تعقيب ولا تثريب علي ابتكارات القاضي محمود الرشيدي في محاكمة مبارك وصحبه، لا تعقيب علي تحويل نقل وقائع المحاكمة إلي مزايدة مالية، اشتراها صاحب القناة الفضائية المزايدة لأعلي سعر، ولا تعقيب علي عروض غسل سمعة المتهمين، والتي استمرت لساعات وأيام وأسابيع بالبث المباشر، ولا تعقيب علي تحويل جلسة النطق بالحكم إلي تقرير تليفزيوني، تحولت فيه غرفة المداولة إلي متحف عجائب، وتحولت الجلسة إلي ما يشبه المؤتمر الصحفي، شرح فيه القاضي أسبابه لتأجيل موعد النطق بالحكم، وكان يمكنه أن ينطق بقراره في ثوان فورافتتاح الجلسة، ودون حاجة إلي تمهيد يستدعي الظنون، فهذا حق القاضي الذي لا يماري فيه أحد، وطبقا للتقاليد القضائية الرصينة، وبغير تثريب ولا تعقيب يعاقب عليه القانون. وربما لا نكون في احتياج إلي انتظار الموعد المؤجل للنطق بالحكم، ومع كامل الاحترام للقضاء وأهله، فلا ذنب للقضاة في القصة كلها، بل هو ذنب السياسة، والتي حالت دون إجراء محاكمة حقيقية لمبارك علي ما اقترفت يداه، وذهبت بالإجراءات إلي الهامش، وتركت المتن، فهم يحاكمون مبارك علي ما فعله في ثمانية عشر يوما، هي عمر الثورة التي خلعته، ويتركون الجناية الأصلية في حكم الثلاثين سنة، والتي انحطت بمصر، وهوت بمقاديرها، وجلبت الخراب المستعجل للبلاد والعباد، وجرفت الركائز الإنتاجية الكبري في الصناعة والزراعة، وحولت الخصخصة إلي «مصمصة»، وشفطت ثروة البلد إلي جيب وحلق العائلة، وإلي خزائن الحواريين من مليارديرات المال الحرام، والذين كونوا طبقة أغني من أمراء الخليج، وانتهوا بالشعب الأفقر إلي حال من البؤس الكظيم، جعل الانتحار خيارا أفضل للخلاص من حياة، هي والموت سواء، فوق نشر العوز والبطالة والعنوسة التي عمت ثلثي السكان المصريين، ونهب البلد كما لم تنهب في تاريخها الألفي، وتوزيع أصول وأراضي الدولة كهبات للمحظوظين، وإقامة تحالف اللصوص مع البيروقراطية الفاسدة، والتي تحولت الوظائف العامة فيها إلي ماكينات بنوك تدر الملايين، وفيما يشبه «خصخصة مجازية» أضيفت إلي خصخصة فعلية، انتهت بمصر إلي وضع العزبة والحكر العائلي المخصوص، جري فيها شفط السلطة بعد الثروة إلي أعلي، وصار الحكم لأقلية الأقلية، زورت وتعهرت مجالسها التشريعية، وصار الفساد مشرعنا ومقننا، يزهو به السارقون، ويحصلون علي أحكام البراءة الآلية، ويتخففون من سيرة القتل وسنينه، فقد يكون مبارك متهما في قتل مئات خلال الثورة، لكنه قتل الآلاف والملايين في الثلاثين سنة كبيسة، قتل عشرات الآلاف ومئاتها في العبارات الخربة والقطارات المحترقة وحوادث الأسفلت المشروخ، وقتل الملايين بالتلوث الغذائي والمائي والبيولوجي وانهيار المرافق الصحية، وصارت مصر بفضله الأثيم بلدا علي المحفة وشفا القبر، صارت رقم واحد في أمراض الهلاك المؤكد، صارت رقم واحد عالميا في الفشل الكلوي، ورقم واحد في التهاب الكبد الوبائي، ورقم واحد في السرطانات الناهشة، فقد قتل الرجل أمة لا أفرادا، وجعل البلد مطية للأمريكيين والإسرائيليين، جعل البلد حراما علي غالب أهلها، وحلالا بلالا لأطيار الشؤم من كل جنس، ووصف شيمون بيريز مبارك بأنه المؤسس الثاني لدولة إسرائيل بعد المؤسس الأول بن جوريون، ووصفه الجنرال بنيامين بن أليعازر بأنه «أعظم كنز استراتيجي لإسرائيل». لم يحاكم مبارك علي آثام الثلاثين سنة، ويحاكمونه علي بعض ما جري في هامش الثمانية عشر يوما، وبطريقة تشبه المساءلة عن سرقة حبل غسيل، لا عن سرقة بلد وقتل أمة، وهي الجرائم التي أنزل فيها الشعب المصري حكمه الذي لا يرد، وخلع الرجل خلع عزيز مقتدر، فإرادة الشعب من إرادة الله، وإذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد لليل أن ينجلي، وقد أراد الذين تولوا الحكم بعد المخلوع، أن يتركونا في سواد ليله الطويل، وكان ما أسميناه وقتها بالتباطؤ الذي يوحي بالتواطؤ، تركوا مبارك وعائلته يسرحون ويمرحون لشهرين كاملين بعد الخلع، وتركوا زكريا عزمي مفتاح خزائن مبارك في عمله، يترأس ديوان الرئاسة الخالي، يرتب ويصنف ويحذف ويحرق، وإلي أن اختفي كل أثر دال علي الجرائم، وإلي أن صارت الطاولة ممسوحة، والمسرح مواتيا للنزول علي إرادة ملايين ميدان التحرير، وتقديم مبارك لمحاكمة جزئية مثقوبة، بدت احتمالات البراءة فيها دانية، وفي انتظار اللحظة المناسبة، ولم يكن مجلس طنطاوي وعنان هو الذي فعلها وحده، بل فعلها الإخوان معه ومن بعده، فقد كان واضحا لكل ذي عينين، أن المحاكمات الجارية لن تنتهي إلي شئ، وأنها أقرب إلي مهرجان براءة عمومي، ثم أنها لن تعيد مليما واحدا مما سرق، ليس لعيب في القضاة الذين نجلهم ونحترمهم، بل لخلل في طبيعة المحاكمات ذاتها، فقرارات الاتهام فيها بعيدة عن متن الجريمة الأصلية، فوق أنها تجري بالقوانين العادية في زمن ثورة وفي تناقض ظاهر مع طبيعة الثورة ذاتها، فالثورة فعل استثناء لا سلوك عادة، والثورة جريمة قلب نظام حكم طبقا للقوانين العادية، وهو ما يفسر انتهاء المحاكمات العادية إلي ما يشبه إدانة الثورة نفسها، وقد حاولنا تصحيح الخلل مبكرا، وطالبنا علنا بإجراء محاكمات ثورية، ومن خلال قضاء طبيعي يكفل ضمانات الدفاع، وبقانون خاص قائم وممكن التفعيل، وهو «قانون محاكمة رئيس الجمهورية بتهمة الخيانة العظمي»، وقد صدر عام 1956، ولم يلغ أبدا، وكانت هناك فرصة لتفعيله بأغلبية تفوق الثلثين في برلمان الإخوان، ورفض الإخوان وقتها بصورة جازمة مستنكرة، خلعوا برقع الثورة، وكشفوا حقيقتهم الأصلية كجماعة ثورة مضادة بامتياز، ومتواطئة موضوعيا مع مبارك وجماعته، وبإحساس غريزي أن الدور قد يحل عليها بعد مبارك، وأن المحاكمة المبتسرة لمبارك قد تمهد لشبيهتها في حالة مرسي، وأن ضمان براءة مبارك قد يفتح الطريق لتبرئة مرسي .